Featured Video

الهوية والمواطنة في الخطاب الليبرالي المعاصر

  الهوية والمواطنة

مر مفهوم المواطنة في الفكر الغربي المعاصر بمحطات تاريخية مهمة أثرت في تكوينه وتطوره، وربما لا تزال بعض جوانبه في طور التشكل بعدُ؛ حيث يحتدم الجدل - في الأدبيات الغربية المعاصرة بالنسبة للمواطنة - حول عدة نقاط محددة، من بينها: الطبيعة المتغيرة والواسعة للمفهوم، التي تجعله في حالة من عدم الاستقرار باستمرار، فضلا عن عدم الاتفاق النظري حول حدود المواطنة وأبعاد وتنوع تطبيقاتها من مجتمع لآخر!! والحال أن مفهوم المواطنة قد ارتبط في تطوره بتطور الجماعة السياسية في الغرب وتشكل البنى الاجتماعية داخلها، بدءا من مجتمع المدينة اليونانية، ومرورا بتشكل الطبقات الاجتماعية إبان الثورة الصناعية، وليس انتهاء ببروز الرأسمالية وظهور الدولة القومية. وبحسب كريستيان ليمك Christian Lemke، فإن ظهور الدول القومية في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قد أثر بشكل كبير في ترسيخ مبدأ المواطنة.
ومن المعلوم أن نظرية المواطنة في الفكر الغربي الليبرالي المعاصر تعد من أكثر الاتجاهات الفكرية ثراءً في هذا السياق. ونحن نقصد بالخطاب الليبرالي الغربي المعاصر هنا ذلك الخطاب الذي تحكمه مسلمات حقبة التنوير الأوروبية، ويركز على تطبيق مبادئ الليبرالية في السياسة، كالحكم المدني وغيره من المفاهيم التي تستخدمها في إطار الاعتقاد بحتمية التقدم الإنساني.
وواقع الأمر، فإن المداخل تتعدد في هذا التيار لدراسة مسألة المواطنة: فثمة أولا من يعول على المدخل الفلسفي لتحليلها؛ وذلك بدراسة ارتباطها بمفاهيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وثمة ثانيا من يتناولها من خلال اعتماد المدخل الاجتماعي؛ وذلك بالتركيز على تحليل أوجه العلاقة بين الأفراد والمجتمع، وبالتالي ما يستتبع ذلك من اقتران مفهوم المواطنة بمفاهيم الهوية والمجتمع المدني، وأطر العلاقات الاجتماعية المختلفة.
جدير بالذكر أنه ضمن السياق الأخير ارتقت التحليلات من مستوى علاقة الفرد بالمجتمع، إلى علاقة الفرد بالدولة لتمثل التعريف الأساسي والجوهري لفكرة المواطنة بعد ذلك. ولعل الإسهامات التي قدمها جان جاك روسو في هذا الإطار تعد بمثابة نقلة نوعية في تاريخية المفهوم؛ حيث تحدث في نظريته المتعلقة بالعقد الاجتماعي عن ضرورة استقلالية الفرد وضمان تمتعه بحريته وحقوقه في مواجهة الدولة.
على أن لخطاب التيار الليبرالي المعاصر أبعاده التاريخية وظروف تكوينه الخاصة. فعلى الرغم من أن مفهوم المواطنة في هذا الخطاب لا يشذ عن باقي المفاهيم الفلسفية الأخرى التي نشأت معه في دائرة فلسفة الأنوار، وعلى رأسها كل من مفهومي الحرية والعلمانية، فإنه يتمتع بخصوصية فريدة على مر تاريخ الخطاب الليبرالي بفضل ما يثيره من تداخل وتشابك بين القيم الليبرالية، خاصة الحرية، ومنظومة الإجراءات أو التطبيقات السليمة لقواعد اللعبة الديمقراطية.
وبحسب ما يؤكد نوربيرتو بوبيو، فإن العلاقة المتبادلة بين الليبرالية والديمقراطية هي علاقة ممكنة؛ لأنهما تنطلقان من نقطة مشتركة، أي من الفرد، وكلتاهما ترتكز إلى فهم فرداني، أو فردي، للمجتمع. ومع ذلك، فإن الفرد من وجهة النظر الليبرالية ليس هو نفسه من وجهة النظر الديمقراطية، بحيث يصح القول: إن المصلحة الفردية التي تسعى الليبرالية إلى صيانتها ليست هي نفسها التي تريد الديمقراطية حمايتها!! وقد استكمل مارشال المهمة التأسيسية لنظرية المواطنة التي يوضح من خلالها أن الحقوق المختلفة للأشخاص، المتعلقة بمفهوم المواطنة، قد تطورت على مدى القرون الثلاثة الماضية بظهور الحقوق المدنية أولا، كالحريات العامة والمساواة القانونية، في القرن الثامن عشر، ثم تطورت الحقوق السياسية إلى المواطنة السياسية ثانيا، كالحق في الانتخابات والمشاركة في اتخاذ القرارات العامة، وأخيرا وليس آخرا ظهور الحقوق الاجتماعية أو المواطنة الاجتماعية، كالحق في الانتفاع بالموارد الطبيعية، إبان القرن العشرين.
وفي المحصلة، يمكن القول: إن مفهوم المواطنة في الفكر الليبرالي المعاصر يشهد مراجعة شديدة بعد حدوث تحولات كبرى على المستوى العالمي، خاصة ما يتعلق ببروز ظاهرة التعددية الثقافية وما تبعها من كثرة الجدل حول مفهوم الديمقراطية متعددة الثقافات Pluriculturalism Democracy - Multiculturalism، وأغلب الظن أن التحولات التي نشهدها اليوم بفضل الربيع العربي سوف تضيف زخما جديدا لتلك المراجعات على كل من المستويين الغربي والعربي في آن معا.
وبهذه المراجعات التي تتم بعيدا عن السياق التقليدي للدولة القومية Post National بمؤسساتها الليبرالية الديمقراطية، يتم استدعاء مفاهيم أخرى لإعادة تعريفها من جديد، أو فهمها في ظل السياق الحالي (سياق المراجعة)؛ وذلك عبر تحليل منظومة المفاهيم المرتبطة بها مثل: الهوية، والسيادة، والمشاركة، والتمثيل النيابي، وعلاقة المساواة بالحرية... إلخ.
وتتميز هذه المرحلة ببعدين رئيسيين، أحدهما داخلي والآخر خارجي، أما الداخلي فيتعلق بازدياد وتيرة التجانس الثقافي بين مواطني المجتمعات الليبرالية الديمقراطية الغربية. وأما الخارجي فيتعلق بالاتجاه نحو العولمة السياسية، مما يطرح بدوره تساؤلا صعبا حول مدى ولاء وانتماء المواطنين تجاه المؤسسات القومية، ومن ثم بدأ الخطاب الليبرالي المعاصر يتحدث عن «المواطنة متعددة الثقافات Multicultural Citizenship»، بينما لا يزال الفكر العربي والإسلامي المعاصر يجادل بشأن إمكانية مرادفة كلمتي: مواطن ومواطنة، لكلمة Citizenship!! بالإضافة إلى وجود انقسام حاد، أو بالأحرى ازدواج بين آيديولوجيتين رئيسيتين هما: الأصولية الإسلامية، والليبرالية في تاريخ تكون الفكر العربي الحديث والمعاصر.
أما فيما يتعلق بمسألة القومية وحدود المواطنة فيها، فإننا إذا أخذنا بمنهج «الإسناد السوسيولوجي» المعمول به في علم اجتماع المعرفة، الذي يعني نسبة فكرة معينة أو نسق من الأفكار إلى فلسفة محددة، أو إسنادها إلى مراحل زمنية وظروف اجتماعية تاريخية، فإنه في ضوء هذه المقولة يمكن القول بتبلور ثلاث نظريات للقومية خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عبرت كل واحدة منها عن الخبرة التاريخية المباشرة لثلاثة نماذج أوروبية في بناء الدولة الحديثة والمعاصرة.
اعتمدت النظرية الأولى على تجربة «الوحدة الألمانية»، فأسست تكوين القومية على وحدة اللغة، بينما اعتمدت النظرية الثانية على «التجربة الفرنسية» من حيث تركيزها على مشيئة العيش المشترك بين أفراد الأمة الواحدة، وأخيرا قدمت الماركسية نظرية ثالثة ظهرت في أعمال روزا لوكسمبورغ وستالين ولينين وتروتسكي، غير أن اجتهادات ستالين طغت على أعمال الآخرين بحيث أصبحت، إلى جانب تجربة بناء الاتحاد السوفياتي، بمثابة الإطار الماركسي المعتمد.
ولبيان ذلك يمكن الإشارة إلى مفاهيم رفاعة الطهطاوي عن «الوطن والوطنية» التي جمع فيها بين أمثلة من التراث والتاريخ العربي، إلى جانب مفاهيم حديثة أنتجتها الثقافة الفرنسية؛ خاصة ما يتعلق منها بتعريف كل من: الوطن، والمواطن، والرابطة الوطنية!! وفي مطلع القرن العشرين ازداد تأثر المثقفين الليبراليين بالنظريات القومية الأوروبية، خاصة النظرية الفرنسية، على النحو الذي تعكسه كتابات أحمد لطفي السيد، الذي تجاوز في طرحه مسألة تأصيل مفاهيم الوطن والمواطن وفق أسس أصولية إسلامية. بينما ظل التأثر بالنظرية الماركسية في القومية محدودا للغاية لدى كل من أنصار التيارين الوطني المصري، والقومي العربي.
يتحصل مما سبق أن الساحة الفكرية في مصر قد حفلت بممثلي مدرسة «النقل والاقتباس من التجربة الأوروبية»، ومدرسة «الاجتهاد»، سواء في ما يتعلق بتفاعل القومية على الصعيدين المصري الوطني (القُطري)، أو القومي العربي.
ومن هنا ظهر الاختلاف بين فريقين من المثقفين حاول أولهما تأصيل مفاهيم المواطنة على أسس تنتمي إلى النظريات القومية الغربية، لكن من دون الإعلان عن العداء للإسلام، بينما ظل ثانيهما، وهو فريق من المفكرين والسياسيين، يطرحون المفهوم الأصولي للأمة والوطن، الذي يقوم على أنه لا قومية في الإسلام، وأن المسلمين أمة واحدة مهما اختلفت جنسياتهم، بينما احتفظ الوطن بمعناه التقليدي الذي يفيد مسقط الرأس أو البيت أو الديار!! وبهذا المعنى وجد المبدأ القومي نفسه في خضم الانقسامات الآيديولوجية السائدة. وتبعا لذلك، أضحى كل تيار يمتلك مفاهيم محددة لمعنى القومية من جهة، ولحدود الجامعة المصرية وهوية مصر الموزعة بين الانتماء لتاريخها الفرعوني وإرثها العربي الإسلامي، أو تبعا لعلائقها الأفريقية والأورومتوسطية من جهة أخرى! في السياق ذاته، رفض أنصار التيار الليبرالي التحديثي فكرة «الجامعة الإسلامية» رفضا مطلقا، واتفقوا على وجود أمة مصرية من قبل التاريخ الإسلامي. وعلى رأس هذا التيار نصادف كلا من: طه حسين، وسلامة موسى، وعبد القادر حمزة، وسليمان حزين، وشفيق غربال، وتوفيق الحكيم، ولويس عوض، وغيرهم.أما التيار الأصولي فقد رفض في المقابل فكرتَي القومية والعالمية؛ حيث أكد حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أن القومية مبدأ خطير لا ينتج إلا الشرور والآثام، ثم تحدث عن «قومية الإسلام» التي تسمح للإنسان أن يعمل لصالح وطنه، أي موطنه!! وكذلك أعلن كل من شيخ الجامع الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي، ومفتي الديار المصرية عبد الرحمن قمر إدانتهما لفكرة «القومية العربية» مؤكدين أن القومية لا تكون إلا بمقتضى الدين، وأن الإسلام جعل المؤمنين كافة إخوة، موحدا بذلك بين العربي وغير العربي
------------------
محمد حلمي عبد الوهاب كاتب مصري

0 التعليقات :

إرسال تعليق