| ||
مؤامرة على مصر
الأسبوع الماضي حذر المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية من مواقع إلكترونية «مجهولة الهوية» تعمل على زعزعة الاستقرار وتحرض على الفتنة الطائفية
والعنف من خلال بث الشائعات. وأشار المجلس في رسالة على موقعه الإنترنتي إلى أنه تقصى هذه المواقع ومن بينها صفحات على الـ«فيس بوك»، فتبين أنها واجهات مجهولة الهوية بعضها يعمل من دول أجنبية لكي يصعب اكتشاف أصحابه. وانتهى المجلس إلى التحذير من الانقياد للشائعات، ودعوات الفتنة المتداولة عبر الفضاء الإنترنتي أو خارجه، وهدفها بث الخوف والشك، وضرب الاستقرار، وإشاعة الفوضى. بعد أيام قليلة من هذا التحذير شهد حي إمبابة الفقير في القاهرة، الذي يعتبر من أكثر الأحياء كثافة سكانية، أحداث عنف طائفية أسفرت عن وقوع 12 قتيلا وأكثر من 180 جريحا، وأدت إلى إلغاء رئيس الوزراء عصام شرف لجولته الخليجية، على أهميتها، لحضور اجتماع طارئ للحكومة لبحث تداعيات الأحداث. اللافت أن الاشتباكات اندلعت عقب شائعة عن وجود امرأة قبطية محتجزة داخل كنيسة مارمينا بالحي لأنها أرادت اعتناق الإسلام، كما قيل، مما أدى إلى تجمع أعداد من الناس، بينهم سلفيون، أمام الكنيسة للمطالبة بتسليمهم المرأة. وسرعان ما تطور الأمر إلى اشتباكات استخدم فيها الرصاص وقنابل المولوتوف وأحرقت خلالها كنيسة أخرى في الحي، ليصب المزيد من الزيت على نار التوتر الطائفي المتقدة.
إنها «حرب الشائعات» التي يشنها من يريدون تحويل عرس الثورة في مصر إلى مأتم، ومن يعملون لبث الفوضى وزعزعة الأمن لإثارة الإحباط في نفوس الناس، وإخماد الروح التي أحيتها ثورة ميدان التحرير والميادين الأخرى. فالطائفية هي أكبر خطر على مصر، مثلما أن الإحباط هو أخطر عدو للثورة، فالأولى تفتت نسيج المجتمع وتضع البلد على أعتاب فتنة خطيرة، بينما الثاني يفتت الروح المعنوية للناس ويجعل الخوف والشك يحلان محل الأمل الكبير في التغيير.
حرب الشائعات والمواقع الإنترنتية المدسوسة، ليست جديدة؛ إذ رافقت الثورة المصرية منذ أيامها الأولى بهدف إحباطها في البداية، ثم لمحاولة إجهاضها لاحقا. وتحدث الناس، على مختلف مستوياتهم، عن الثورة المضادة التي تهدف لإشاعة الفوضى وعرقلة خطوات التحول الديمقراطي في البلد الذي لا يختلف اثنان على دوره وقدرته على التأثير في محيطه. ففي الداخل هناك قوى تريد إحباط الثورة، وأخرى تسعى لمصادرتها، وهناك خائفون على الثورة وخائفون منها. وفي الخارج أيضا هناك من يتمنى انتكاسة «الربيع العربي». المشكلة أن الأمور وصلت حدا جعل بعض الناس في مصر (وفي تونس أيضا) يتحدثون عن «سيناريو الجزائر»، بمعنى وجود أطراف تعمل لإثارة البلبلة وتهيئة الظروف لفوز الإسلاميين في الانتخابات في أجواء تكون مشحونة بالتوتر، بهدف دفع الجيش للتدخل تحت شعار «إنقاذ البلد».
وفي مصر تحديدا فإن مثل هذه الأحاديث تغذي أيضا التوتر الطائفي حيث يشعر الأقباط بالقلق من صعود الإسلاميين وبالأخص من تشدد السلفيين الذين علا صوتهم فجأة في مصر بعد الثورة، وتوجه كثير من تحركاتهم وتصريحاتهم لتزيد من توجس الأقباط الذين باتوا يتخوفون من «سيناريو العراق»، حيث استهدفت حركات الإرهاب والتطرف المسيحيين لتهجيرهم.
كان لافتا أن وتيرة الأحداث الطائفية تسارعت في مصر منذ الثورة من حرق كنيسة بمركز أطفيح بالجيزة والصدامات التي أوقعت 13 قتيلا، إلى قطع أذن أحد الأقباط في صعيد مصر، ثم المظاهرات الرافضة لتولي قبطي منصب محافظ قنا. وفي إطار التصعيد المستمر نظمت أيضا عدة مظاهرات خلال الأسابيع الماضية لإحياء قضية كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين، وهما زوجتا كاهنين دار حولهما جدل واسع منذ أشهر بعدما تردد أنهما محتجزتان في كنائس لأنهما أسلمتا.
لقد باتت مسألة الفتنة الطائفية أكبر مهدد لمصر وثورتها، والأمر لن يحتمل أي تهاون أو تساهل. فالأقباط الذين تتفاوت التقديرات بشكل كبير حول أعدادهم، ما بين ستة إلى عشرة ملايين، جزء أصيل من المجتمع المصري وليسوا وافدين أو دخلاء عليه، وهناك وجوه عديدة منهم رفعت اسم بلدها عاليا في الخارج. كما كانت مصر طوال تاريخها نموذجا للتعايش قبل أن تظهر فيها بعض حركات التعصب والتطرف الديني لتهدد بتدمير وحدتها الوطنية وتمزيق نسيج مجتمعها. وبعد النموذج الرائع في التلاحم الذي بدا إبان أيام الثورة، تطل اليوم حركات وأصوات ترفض مبدأ المواطنة المتساوية للجميع، وتريد تهميش الأقليات، بل وفرض صوتها على الجميع.
إن حماية الثورة أمر مطلوب، لكن حماية الوطن ووحدته واجب مقدس. وإذا كان من أساسيات التحول الديمقراطي السماح بحرية التعبير والتنظيم، فإن حماية الديمقراطية تتطلب سيادة القانون وحماية حقوق كل المواطنين بالتساوي وبلا تمييز. فالقانون يجب أن يبقى فوق الجميع، والقضاء المستقل هو الجهة التي يحتكم إليها الناس. وليس من حق حركة أو مجموعة من الناس أن تحرق دور العبادة، أو أن تنظم التجمعات للمطالبة بتسليم أشخاص إليها للتأكد من انتمائهم الديني. فإذا كان هناك شخص محتجز ضد إرادته، فإن القانون هو الذي يحميه، وهو الطريق الذي يجب أن يسلكه الناس.
مصر تمر حاليا بمرحلة انتقالية صعبة، والثورات عادة ما تكون أكثر هشاشة خلال هذه المرحلة. فالناس تكون لديهم طموحات عالية وتوقعات كبيرة ورغبة عارمة في تغيير يتم أمس قبل اليوم. لكن الثورة تحتاج إلى الصبر والمثابرة واليقظة لكي تتحقق أهدافها، ولحمايتها من الذين يريدون مصادرتها أو إجهاضها ببث الفوضى ونشر الشائعات وخلق الفتنة. وقد يكون مهما في هذه المرحلة أن يقوم الجيش المصري الذي قدم نموذجا راقيا في الانضباط والالتزام بحماية الوطن، رافضا توجيه سلاحه ضد شعبه، بتعزيز قنوات الاتصال والتشاور مع قوى المجتمع الأخرى السياسية والمدنية لكي تتكامل جهود حماية الثورة والوحدة الوطنية، ولكي يتم تجاوز مشاعر القلق والإحباط في هذه المرحلة الحساسة.
0 التعليقات :
إرسال تعليق