(من أجل: الخروج من أزمة المناطق الثلاث وشرنقة الجهوية والعنصرية)
توصلنا في المقالين السابقين إلى: mahdica2001@yahoo.com
- أن جذور النزاعات في السودان تعود أساساً إلى التخلف الإقتصادي نتيجة جمود وسائل وعلاقات الإنتاج (والتي دائماً ما تتفاعل مع عوامل تعدد الهويات فيصعب التمييز بين السبب والنتيجة).
- إن "حزام الخير والموارد" الممتد من أم دافوق غرباً إلى الفشقة شرقًا والذي تحول إلى "قوس أزمات مشدود"، يُمثل سُرة وحدة السودان (مُسمار النص) وفي ذات الوقت قد يكون مسرح حروبه القادمة (إعتماداً على الطريقة التي يُدار بها النزاع ونهج ومفهوم التنمية).
- أدى سقوط "المشروع الحضاري" وتقهقر الحركة الشعبية عن نقيضه "مشروع السودان الجديد"، إلى فراغ فكري وبلبال على مستوى القيادة مما قاد بدوره إلى الإحباط على مستوى القاعدة.
- أن مشروع السودان الجديد لا يزال صالحأ كمشروع وطني لبناء الدولة السودانية، ولكن بشرط تطويره وسد ثغراته (دون مُكابرة) التي اتضحت بجلاء خلال فترة التطبيق؛
- كذلك زعُمنا بأن الجبهة الوطنية العريضة هي الوعاء التنظيمي الأمثل للقوى الوطنية المُستنيرة، وأن الولايات السودانية الفيدرالية (المتحدة) هي النظام الديمقراطي الأقدر على الحفاظ على وحدة السودان وفي ذات الوقت إحترام تنوع منابته وثقافاته والتعبير عنها.
- كما خلُصنا إلى أن حصاد حقل إتفاقية نيفاشا لا يشابه حساب بندرها، واستعرضنا بعض المحاور الأساسية (المداميك) التي قامت عليها الإتفاقية (دولة واحدة بنظامين، قسمة السُلطة، والمشاركة في الثروة) ونستكمل في هذه الحلقة إستعراض بقية المحاور:
ماهي المشورة الشعبية؟.
إن المشورة الشعبية، وبإختصار شديد، تعني سؤال أعضاء البرلمان المحلي المُنتخب لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق (وليس عامة الشعب) عن رأيهم في إتفاقية السلام الشامل وهل لبت تطلعات شعوب الولايتين أم لا؟، فإذا كانت إجابة النواب البرمانيين بـ نعم، يعتبر الموضوع مُنتهياً، أما إذا كانت الإجابة بـ لا، فُيرفع الأمر لرئاسة الجمهورية لإجراء المُعالجات اللازمة. فبالله عليكم هل يوجد في الدُنيا إتفاق أكثر هُلامية وضبابية من هذا؟؟.
والغريب والمُدهش في الأمر، أن كُل الأطراف المعنية (أي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية والقوى الخارجية الفاعلة) مُتفقة على عدم وضوح وفاعلية المشورة الشعبية، كما يرى معظم أبناء وبنات الولايتين أنها لا تُلبي طموحاتهم وتطلعاتهم (ولجهره بهذا الرفض، يقبع تلفون كوكو بسجن جوبا!!)، وحتى في حال تطبيق المشورة كما وردت في متن الإتفاقية، فإن الأغلبية في برلمان ولاية النيل الأزرق تتبع حالياً للمؤتمر الوطني ولذلك فإن النتيجة معروفة سلفاً، وللأسف لن يختلف الحال كثيراً في ولاية جنوب كُردفان (التي لم تُجر فيها الإنتخابات، بل ولم تُعلن نتائج الإحصاء المُعاد. إن الذي زور الإنتخابات والإحصاء السُكاني في عموم السودان ليس عسيراً عليه تزوير إنتخابات ولائية، ومن تلاعب بإتفاقية نيفاشا التي يحرسها المجتمع الدولي بقضه وقضيضه والجيش الشعبي بمدافعه وراجماته ودباباته وطائراته، وعبث بالتحول الديمقراطي وحوله إلى كنكشة ومُلك عضود، غير عسير عليه التلاعب بالمشورة الشعبية التي لا توليها الحركة الشعبية أهمية تُذكر، ولعلنا نلاحظ أن الحركة رفضت رفضاً باتاً تأجيل إستفتاء جنوب السودان ولو لساعة واحدة ولكنها صمتت صمتاً مُريباً عن التلكؤ والمماطلة في أمر المشورة الشعبية (وذلك بالرغم من حشفها وسوء كيلها)، ولسنا هنا بصدد الحديث عن البيع وإتهامات التخوين ولكن واقع الحال يغني عن أي شرح أو تفسير، وما يهمنا في الأمر، أن شعبي جبال النوبة والأنقسنا لم ينالا ما ظلا يُحاربان من أجله، ولهذا طال الزمن أم قصُر سوف تتفجر الثورة والتمرد والعصيان في هذين الإقليمين الللذان لم يُحاربا من أجل مُصطلح هُلامي لن يُغير من واقع الحال شيئاً، ولم تُضح شعوبهما من أجل أن يصبح السيد/ مالك عقار، نصف والي على جنوب النيل الأزرق أو أن يصبح السيد/ عبد العزيز الحلو، ثُلث والي في جنوب كُردفان، ولئن رضي الحلو وعقار بما نالاه من مناصب وجاه، فإن الثورة قادمة لا محالة بهما أو بدونهما، وفي هذا يقول دكتور/ جمعة كونده كومي كالو (جامعة جوبا) في ورقة طرحها خلال مؤتمر مُستقبل السودان الذي نظمته جامعة جنوب إفريقيا في نوفمبر 2009، ونُشرت في: 1) المشورة الشعبية أو كعب أخيل إتفاقية نيفاشا:
(International Journal of African Renaissance Studies, Volume 5-1. June 2010)
“However, for the Nuba and other marginalized people, the outcome of the CPA and its implementation performance are below political expectations. The CPA failed to address effectively the root causes of their political and armed struggle- particularly the key questions pertaining to their identity, territory and political destiny. (There are new dynamics, strategic positions, and practices emerging in the three areas after and in response to the CPA”.
وفي تقديرنا أنه لا يوجد حل لهذه المُعضلة إلا بتبني خيار الولايات السودانية الفيدرالية-المتحدة (ومن ضمنها ولايتي جبال النوبة وولاية النيل الأزرق وولاية أبيي- أي المناطق الثلاث) وقيام دولة واحدة بنُظُم متعددة.
من عيوب إتفاقية نيفاشا التي لا تخفى على الأعمى، غياب الجماهير ومنظماتها المدنية والسياسية والنقابية عن مفاوضاتها وبالتالي عجز هذه الجماهير عن حماية الإتفاقية، ومن المُلاحظ أن الحركة الشعبية لم تستعن ولم تُشرك ولم تستخدم جماهيرها (عبر المسيرات أو الإعتصامات) في كُل الخلافات التي حدثت بينها وبين شربكها في الحُكم، وإنما تلجأ دائماً إلى الإجتماعات المُغلقة و"الحردان" والصفقات الثُنائية المُريبة (على شاكلة خارطة الطريق والمصفوفة وصفقة ليلة الإنسحاب)، والمرة الوحيدة التي حاولت فيها تسيير مظاهرة شعبية (إحتجاجاً على التلكؤ في إصدار قانون الإستفتاء- 07 ديسمبر 2009) كانت النتيجة كارثة أقرب إلى الفضيحة ولم تسأل الحركة الشعبية نفسها، أين تبخرت الملايين التي إستقبلت جون قرنق بالساحة الخضراء – 08 يوليو 2005!!!، وما السبب في عزوفها؟ وفشل الحركة في المحافظة عليها؟. لا يوجد سبيل لتصحيح هذا خلل غياب البُعد الشعبي، إلا من خلال الجبهة الوطنية الشعبية العريضة التي تضُم كافة فئات ومنظمات الشعب، وبالتالي تكون هذه الجبهة هي الضامن الحقيقي لأي إتفاق أو تعاقد إجتماعي أو تواثق سياسي يتيح الحفاظ على وحدة البلاد وإحترام تنوعها من خلال النظام الفيدرالي والتحول الديمقراطي الحقيقي، فمن شأن توحيد قوى الهامش في جبهة عريضة عزل قوى المركز ومحاصرتها في شريطها أو مثلثها الضيق، وإجبارها على التخلي عن هيمنتها وسيطرتها التي لم تتحقق إلا نتيجة لنجاح حكومة الإنقاذ في شق صفوف وتشتيت قوى الهامش. وينبغي أن يكون واضحاً في الأذهان ودون أدنى لبس أو تشويش أن أُطُر الأحزاب التقليدية لم تعُد تصلح لأن تكون مظلةً لتوحيد المُهمشين والمُستضعفين لتناقض وتضارب المصالح بين القيادة والقاعدة، إذ أن الأولى (قيادات الأحزاب) همها السُلطة بمفهومها النخبوي المتخلف، بينما الثانية (الجماهير) تتوق إلى العدالة والمساواة والإنعتاق من ثالوث الفقر والجهل والمرض.
ظلت كافة التنظيمات السياسية والعسكرية في دارفور وكردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق- منذ بروز جبهة سوني وجبهة نهضة دارفور ومؤتمر البجا وإتحاد عام جبال النوبة في الستينيات من القرن الماضي وحتى قيام الحزب الفيدرالي (دريج) والحزب القومي السوداني (فيليب غبوش) وجبهة الشرق وتنظيم الأسود الحُرة، وتجمع كُردفان للتنمية وحركة التحرير والعدالة (التي تشكلت حديثاً)، مروراً بحركة العدل والمساواة والحركة الشعبية لتحرير السودان وغيرها من التنظيمات العسكرية والمدنية، تدعي وتزعم بأنها تنظيمات قومية تسعى إلى علاج أزمة الحُكم في السودان قاطبة، ولكن يظل هذا الزعم مجرد إدعاء لفظي (Lip Service) لا تسنده معطيات الواقع المُعاش، الذي يقول بأن كافة هذه الحركات "بما فيها الحركة الشعبية وحركات دارفور على إطلاقها"، لا تستطيع ومهما صكت في برامجها وأطروحاتها النظرية من تغني بالقومية والشمولية، بعيدة عن شُبهة الجهوية والعُنصرية (التي قد تتقزم لتصبح محض تنظيمات قبلية أو حتى عشائرية) ولا مخرج لهذه التنظيمات والحركات من هذه الورطة (أو الشُبهة) إلا بالإنخراط في جبهة وطنية عريضة تتبنى خيار الفيدرالية (الولايات السودانية المُتحدة)، وبالتالي تتمكن من الخروج من شرنقة الجهوية والعنصرية، وفي ذلك إصطياد عصفورين (أو عدة عصافير) بحجر واحد، أي تحقيق وحدة قوى الهامش (وفي الوحدة قوة) والتعبير في ذات الوقت عن الخصوصية الجهوية/الإثنية التي لا ضير في الإعتراف بها.
ختاماً، نعتقد كذلك أن في تبني فكرة الولايات السودانية الفيدرالية المُتحدة (أي الوحدة مع التنوع) علاجاً لأزمة أبيي المُعقدة واتي تُنذر بشرٍ مُستطير وفي هذا الصدد على الدينكا والمسيرية عدم الإنجرار إلى ما يُساقان إليه من دمار، فعليهما التريث وسؤال نفسيهما لمصلحة من يتحاربان؟؟ وماذا إستفادت المنطقة والقبيلتان من إنتاج البترول طيلة عشر سنوات كاملة؟؟، فالأجدر بهما تكوين تحالف ثُنائي والمطالبة بإنشاء ولاية ضمن الولايات السودانية المتحدة تضم عناصر القبيلتين وتُدافع عن حقوقهما المهضومة (وعلى مثل هذا الحلف منع إنتاج وتصدير النفط لإجبار الشريكين (الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني) على النظر بجدية في تنمية المنطقة والكف عن العبث بمصالحها لصالح أجندتيهما)، فكلاً من المسيرية والدينكا مُهمش ومُستغل حتى النُخاع.
كما أن الخيار الفيدرالي الحقيقي يُتيح بارقة أمل لإستعادة جنوب السودان الذي أصبح أمر إنفصاله في حُكم القدر المحتوم، وإن كان هُنالك بصيص رجاء في عودة الجنوب إلى السودان الحدادي مدادي (سودان المليون ميل مُربع) فلن يحدث ذلك إلا عبر ترتيبات جديدة تماماً ووحدة لا تنظر إلى النفط فقط، وإنما تهتم بالإنسان أولاً وأخيراً.
وأخيراً فإن الدولة الواحدة بنُظُم متعددة تعني إعادة هيكلة وبناء الدولة السودانية على أُسس جديدة، وهو عين العرض الدستوري الجديد الذي يُنادي به السيد/ ياسر عرمان، ولهذا تتملكني الدهشة والحيرة من الموقف الغامض/المُتردد لقطاع الشمال من الجبهة الوطنية العريضة، وقد كان الأمل أن يكون رأس رُمحها وأول المُبشرين بها.
ثمة مزايا إقتصادية كُبرى في تقليص ولايات السودان (الـ 26) إلى ما بين 9-12 ولاية فقط (أي إلى النصف أو أقل قليلاً)، إذ أن في ذلك تقليلاً وترشيداً للإنفاق الحكومي البذخي على 26 حكومة ولائية وبرلمان ولائي وجيوش جرارة من الدستوريين والمُستشارين (لا يفقهون ولا يقعلون شيئاً)، ومن شأن هذا التقليص توفير مليارات الجنيهات التي تُضيع هدراً في حكومات إقليمية لا سُلطة ولا إمكانيات لها (لا تهش ولا تنش)، ومجالس تشريعية لا تحل ولا تربط، ومن الأجدى الإستفادة من هذه الموارد الضائعة هدراً، في مشاريع تنموية مُستدامة وإستغلالها في إصحاح البيئة وبناء شبكة للمجاري والصرف الصحي، أو حتى بناء مراحيض عامة.
لتحقيق الرؤية الفيدرالية الآنفة، لا بُد أولاً وقبل كُل شئ إزالة النظام الحاكم بإستخدام كافة السُبُل والوسائل، دون مُهادنة أو مسك للعصا من المنتصف، وقد حان الأوان لحدوث تغيير نوعي في آليات وأهداف النضال، فقد أثبتت التجارب السابقة وكافة الإتفاقيات التي تستعصي على الحصر، أن هذا النظام غير قابل للإصلاح وكما قال الراحل/ د. جون قرنق:
(This regime is too deformed to be reformed).
في الحلقة القادمة والختامية نستعرض التحديات الجسام التي تواجه الجبهة الوطنية العريضة (وأهمها طرح بدائل مُقنعة وبرامج تفصيلية للإصلاح، وإختيار قيادات ذات مصداقية- عبر آليات ديمقراطية شفافة)، كما سوف نتناول علاقة الجبهة العريضة بالقوى السياسية داخل السودان.
وقاحـة العناطج:
تلقيت دعوة كريمة (أعتز بها) من اللجنة التحضيرية للجبهة العريضة للمشاركة في مؤتمرها التأسيسي المُزمع في لندن (22-24 أكتوبر 2010)، فتقدمت بطلب للسفارة البريطانية في بريتوري للحصول على تأشيرة دخول لبريطانيا التي سبق وأن زُرتها أكثر من أربعة مرات، بل ودرست في جامعاتها، ولكن وللمفاجأة رفضت السفارة منحي تأشيرة دخول (رغم إستيفائي لكُل الشروط)، ومع كُل هذا العنت نقرأ تصريحاً للعنيطج الصغير (سوار) "بأن الجبهة صنيعة لقوى أجنبية وتتخابر مع بريطانيا وأمريكا"، ومن بعده يُصرح د. قُطبي مُردداً ذات التُرهات والإتهامات الغليظة التي تدُل على فلتان أعصابهم وخشيتهم من مارد الجبهة العريضة. ولهما نقول (إن العُملاء تُرسل لهم الطائرات الخاصة لنقلهم إلى رئاسة المخابرات الأمريكية والبنتاجون، لا أولئك الذين يدفعون ثمن بطاقات سفر مٌشاركاتهم، ويُحرمون تأشيرات الدخول ُويمنعون من السفر).
بالله عليكم؛ ما تصنيفكم لهذه التصريحات " وقاحة أم قلة أدب؟؟ ". 3) الجبهة الوطنية مخرج لحركات الهامش من شرنقة الجهوية والعنصرية: 2) غياب البُعد الشعبي ومنظمات المجتمع المدني عن إتفاقية نيفاشا: