Featured Video

القطاع الأمني في الخليج: هل هو محصّن ضد الصحوة العربية؟



 

طبع أداء الأجهزة الأمنية خلال الصحوة العربية المسار الذي سلكته كل انتفاضة. ومن غير المفاجئ أن المراحل الانتقالية طويلة الأمد تتوقّف أيضاً على قدرة الأنظمة السياسية على كبح جماح الأجهزة الأمنية – الجيش وأجهزة الأمن الداخلي والقوات شبه العسكرية – وإصلاحها بعدما أصبحت كبيرة جداً أو نافذة جداً أو همجية جداً أو مستقلّة جداً. وفي الوقت الذي تتوافر فيه فرص للإصلاح الأمني في البلدان التي تمرّ في مراحل انتقالية،  تستخلص الأنظمة التي صمدت أمام العواصف السياسية دروساً أخرى من الانتفاضات.
 فباستثناء البحرين وعمان، كانت الضغوط الشعبية التي تعرّضت إليها الأنظمة الملكية في الخليج معتدلة نسبياً، نظراً إلى أن التحدّيات الاقتصادية والسياسية هناك أقل حدّة ويمكن التحكّم بها أكثر، ولاسيما بفضل الثروة النفطية. والواقع أنّ هذه الأنظمة لم تهتم باستسلام حكّام آخرين في الشرق الأوسط أمام موجة الانتفاضات الشعبية بعدما كانوا قد انهمكوا مثلها في تحصين أنفسهم من الانقلابات في الداخل، وما يؤشّر إليه ذلك من أن التركيز على الأمن الذي كان يُعتبَر من قبل ضمانة للبقاء، شكّل في الواقع عاملاً مساهماً في سقوطهم. بل على العكس تماماً، ردّت الملَكيات الخليجية بزيادة اعتمادها على القطاع الأمني وترسيخ شبكات المحسوبيات التي تربط الأسرة الحاكمة بسلك الضباط والموظفين الأمنيين المتقاعدين.
تسلّط الحالتان الكويتية والعمانية الضوء على أن الإصلاح الأمني ليس في نهاية المطاف مجرّد تحسينات تنظيمية أو عقائدية أو تدريبية، بل يتأثّر إلى حد كبير بالبيئة التي تحتضنه.
 للأنظمة الملكية في الخليج عددٌ من القواسم المشتركة. فهي تستثمر بشدّة في القطاع الأمني لكنها تبقى في الوقت نفسه دولاً غير عسكرية. كما أن الجيش لاينخرط كثيراً في الأعمال أو البنى التحتية. وقد ضمنت هذه الأنظمة ولاء القوى الأمنية وقدرتها على التعويل عليها من خلال مزيج من الحوافز: المحسوبيات، المكانة المرموقة، والقدرة على الوصول إلى الحكّام. عامل القرابة هو أيضاً أداة أساسية للسيطرة الأمنية؛ ففي مختلف أنحاء الخليج، يشغل أشخاص ينتمون إلى الأسر الحاكمة المناصب الأمنية العليا، من وزارتَي الداخلية والدفاع وصولاً إلى قيادة الوحدات النخبوية. وغالباً ما يتحدّر عناصر الوحدات الأفضل تدريباً والأعلى أجراً في الجيش من قبائل الحكّام ومناطقهم. وفي معظم دول الخليج، يُمنَع الشيعة من الانضمام إلى القوى الأمنية.
 تأمل الأنظمة الملكية، عبر إسناد تركيبة الأجهزة الأمنية إلى الاعتبارات العائلية والقبلية والمذهبية، في أن تحدّ من احتمال حدوث انقسام داخل هذه الأجهزة وكذلك من احتمال التحاقها بالانتفاضات الشعبية عند وقوعها.
كذلك، لجأت معظم الملَكيات الخليجية إلى السخاء الحكومي كوسيلةٍ أولى لإبعاد شبح التململ. وبطبيعة الحال، امتدّ هذا الأمر إلى القطاع الأمني حيث يُعتقَد أن كل وظيفة جديدة وكل زيادة جديدة في الأجور تعزّز السيطرة الأمنية. ففي مارس/آذار الماضي أعلنت السعودية في إطار خطة إنفاق ضخمة تصل إلى 130 مليار دولار، عن علاوات وترقيات للعسكريين، وزيادة تمويل الشرطة الدينية، واستحداث 60000 وظيفة جديدة في الأمن الداخلي. يُعزّز هذان الإجراءان نفوذ وزارة الداخلية برئاسة الأمير نايف الذي عُيِّن حديثاً ولياً للعهد، والذي يُعتقَد أنه مناوئ لإجراء إصلاحات سياسية هامة. وعلى الرغم من أن قطر لاتواجه تحدّيات داخلية، إلا أنها أعلنت أيضاً في سبتمبر/أيلول الماضي عن زيادات على الرواتب والمعاشات التقاعدية بنسبة 120 في المئة للضباط و50 في المئة للجنود النظاميين.
وفي السياق نفسه، شدّدت الإمارات العربية المتحدة قبضتها أيضاً. صحيح أن الحكومة أجرت انتخابات لاختيار المجلس الاستشاري في سبتمبر/أيلول، لكنها ردّت على الدعوات للإصلاح السياسي بسجن ناشطين. بيد أن الإمارات تتميّز بالمهنية العالية لأجهزتها الأمنية والتي تعود في جزء منها إلى المتطلّبات التي يفرضها التنوّع السكّاني وإلى الاقتصاد الآخذ في النمو، وأيضاً إلى تعزيز طموح المؤسسة العسكرية. وتشتهر أيضاً باعتمادها على المتعاقدين الأجانب للاضطلاع بمجموعة واسعة من الوظائف الدفاعية، ويبدو أن الهدف من بناء قوّة موالية للنظام من المرتزقة غير المسلمين (الذين تدرّبوا على يد شخص من طراز إريك برينس، مؤسّس "بلاكووتر") هو استخدامها سلاحاً ضد مجمعات العمّال الأجانب المكتظّة أو الاحتجاجات المؤيّدة للديمقراطية.
تبرز الحالة البحرينية في الخليج نظراً إلى حجم الاحتجاجات الشعبية واللجوء المنهجي إلى العنف فيها. فقد ردّ النظام على الاحتجاجات الواسعة بنشر أجهزته الأمنية كافة وأجاز لها بموجب مرسوم ملكي "اتّخاذ كل التدابير الضرورية لحماية أمن البلاد ومواطنيها". وكانت النتيجة حملة قمع واسعة ارتُكبِت خلالها انتهاكات كثيرة بحق المدنيين بما في ذلك أعمال قتل وتعذيب وتخريب. وقد استُخدِمت المحاكم العسكرية لإصدار أحكام بحق المدنيين في ظروف غامضة. وفي مؤشّرهام، حافظت الأجهزة الأمنية على تماسكها، وحقّقت أهدافاً قصيرة الأمد لصد المحتجّين واحتوائهم.
كما في باقي بلدان الخليج، لا تعكس تركيبة القوى الأمنية في البحرين المشهد السكّاني. إذ يُمنَع على الغالبية الشيعية، التي تعاني من معدّلات أعلى من البطالة في صفوفها، العمل في القطاع الأمني فيما يُوظَّف سنّة أجانب- يُعتبَرون أكثر موثوقية- عناصر في الشرطة وجنوداً في الجيش، وذلك قبل منحهم الجنسية التي يحصلون عليها في وقت لاحق. تدخّلت القوات السعودية والإماراتية في البحرين تحت غطاء ميثاق مجلس التعاون الخليجي، وتتحدّث تقارير عن تجنيد أعداد متزايدة من المرتزقة منذ بدء الانتفاضة. حُمِّلت العناصر الأمنية غير البحرينية تبعة جزء كبير من الانتهاكات، لكن قد يكون السبب ببساطة أنهم نُشِروا بأعداد أكبر من العناصر الأمنيين البحرينيين على الأرض. ومن  المستبعد أن تغيّر الحكومة هذه السياسات، فهي تعتبر أن انخراط المواطنين الشيعة في القوى الأمنية قد يؤدّي إلى تمرّد مسلّح ويدفع بالبلاد نحو حرب أهلية.
سوف يتجلّى مستقبل الإصلاح الأمني في البحرين في الاستنتاجات التي ستتوصّل إليها اللجنة المستقلّة المكلَّفة التحقيق في حملة القمع وسلوك الأجهزة الأمنية في 23 نوفمبر/تشرين الثاني.  هذه اللجنة، التي أنشأها الملك،  تتألّف من خمسة خبراء قانونيين محترمين غير بحرينيين برئاسة الباحث القانوني الأمريكي-المصري شريف بسيوني. غير أنه ليس واضحاً بعد إذا كان التقرير سيتطرّق بالتفصيل إلى الانتهاكات، ويوصي بمقاضاة مرتكبي القمع، ويقترح تغييرات عميقة، مثل دمج جهاز الأمن الوطني في وزارة الداخلية. فمن شأن مثل هذه التوصيات أن تُظهر فعلاً أن الحكومة مستعدّة وقادرة على الذهاب أبعد من التغييرات الأمنية الشكلية. أما إذا اكتفت اللجنة بإلقاء اللوم في الانتهاكات على العناصر الأمنية المارقة أو الخارجة عن السيطرة، واقتصرت مقترحاتها على أن الحل يكمن في تحسين التدريب، فسوف ينطوي ذلك على تجاهل الاستخدام المتعمّد للقوة الذي يهدف إلى سحق المعارضة وترهيبها. وإذا اعتبرت اللجنة أن أعضاء بارزين في الأسرة الحاكمة في البحرين ضالعون في إصدار أوامر القمع وإدارة تنفيذها، فقد تتسبّب بانشقاق داخل النظام الملكي من شأنه أن يؤدّي إلى تباطؤ مجهود الإصلاح السياسي، حتى ولو كان أصلاً خجولاً جداً، أو وقفه بالكامل.
 أما عُمان فقد شهدت أيضاً احتجاجات واسعة، لكن نظامها الملكي ردّ بإجراء إصلاحات أوسع نطاقاً لا سيما وأن السلطان قابوس، وخلافاً للملَكيات الخليجية الأخرى، قام بمركزة سلطته، كما أنه لايخضع بالدرجة نفسها إلى قيود السياسة العائلية. واكتسبت الاحتجاجات زخماً في مدينة صحار الصناعية في أواخر مارس/آذار الماضي قبل أن تتدخّل الشرطة (ولاحقاً الجيش) وتُبعد المحتجين عبر اللجوء إلى العنف. رداً على هذا القمع الدموي، أقال السلطان قابوس مسؤولَين أمنيين كبيرين هما وزير الداخلية سعود بن ابراهيم البوسعيدي ورئيس شعبة الاستخبارات، اللواء علي بن ماجد. فضلاً عن ذلك، سارت عمان باتجاه استقلال أكبر للقضاء عن الشرطة. وسوف يتوقّف التقدّم نحو إصلاح شامل للقطاع الأمني على منح البرلمان إشرافاً أكبر على الجيش والشرطة. فباستثناء البحرين وعمان، كانت الضغوط الشعبية التي تعرّضت إليها الأنظمة الملكية في الخليج معتدلة نسبياً، نظراً إلى أن التحدّيات الاقتصادية والسياسية هناك أقل حدّة ويمكن التحكّم بها أكثر، ولاسيما بفضل الثروة النفطية.
اقترح البعض اعتماد الكويت نموذجاً. في الواقع، في منطقة الخليج حيث الأمن هو تقليدياً من اختصاص ديوان الحاكم، عمد مجلس الأمة الناشط في الكويت مراراً وتكراراً إلى التدقيق في السياسات الأمنية للحكومة وتحدّيها وصولاً إلى طرح علامات استفهام حول عمليات شراء الأسلحة. وفي مؤشّر عن دور مجلس الأمة الكويتي، أُرغِم وزير الداخلية الشيخ جابر الخالد الصباح على الاستقالة في فبراير/شباط الماضي بعد الغضب الشديد الذي تملّك النواب عقب وفاة سجين محتجز لدى الشرطة في تهم غير سياسية. بيد أن سلطة مجلس الأمة تبقى محدودة. ووزير الداخلية الجديد الشيخ أحمد الحمود الصباح هو أيضاً عضو في العائلة المالكة، ولم تُستتبَع الاستقالة بالإعلان عن إجراء إصلاحات أمنية أعمق.
تسلّط الحالتان الكويتية والعمانية الضوء على أن الإصلاح الأمني ليس في نهاية المطاف مجرّد تحسينات تنظيمية أو عقائدية أو تدريبية، بل يتأثّر إلى حد كبير بالبيئة التي تحتضنه. إن الميل إلى تحميل تبعة الانتهاكات للمجنّدين الخارجين عن السيطرة والاكتفاء بمعالجة الأمر من خلال التدريب أو تغيير الأشخاص هو تهرّب من التحدّي الحقيقي. في الواقع، لايساهم التركيز الحصري على تحقيق الاحتراف المهني في أجزاء من القطاع الأمني (أو التظاهر بتحقيقه كما هو الحال في معظم الأحيان) في تحسين سلوك هذا القطاع في الإجمال أو تخفيف قبضته على السياسة.
--------------------
إميل الحكيّم باحث زميل بارز حول  الأمن الإقليمي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في المنامة.

0 التعليقات :

إرسال تعليق