إتفاقيّة السلام الشامل .. إسم على غير مسمى ..
بقلم: الإمام الصادق المهدي: آخر لحظة
في افتتاح هذه المائدة المهمة التي نشكر الفضائية المستنيرة الجزيرة على ترتيبها، أود أن أطرح أسئلة مفتاحية وأجيب عليها باختصار لكي تلقى ضوءاً للمناقشات المزمعة.
ما الذي جاء بدعوة تقرير المصير؟ ثم بالانفصال المتوقع؟ وما هي المآلات بعد ذلك؟
1. كان السودان على طول تاريخه ملتقى ثقافات، هذا ما دلت عليه حفريات كرمة ثم آثار كوش، هذه الطبيعة التمازجية جعلت السودان يغير هويته أكثر من مرة سلمياً: فالمسيحية الارثوذكية دخلت السودان سلمياً وأقامت فيه ممالك: نوباتيا- المقرة- وعلوة منذ القرن السادس الميلادي.. ثم دخل الإسلام سلمياً فقامت في السودان ممالك إسلامية الفور- الفونج- والمسبعات- وتقلي- والكنوز، والمدهش أن البلدان التي أسلمت بعد الفتوحات أبقت على أقليات معتبرة من الأديان السابقة كما في الشام والعراق ومصر.. ولكن في السودان لم يبق ولا واحد من أتباع المسيحية.
الاستثناء من هذه القاعدة هو الجنوب الذي حالت ظروف جغرافية من وصول المسيحية الأرثوذكية إليه ثم حالت أيضاً دون وصول الإسلام.
ولكن في مرحلة لاحقة لدى احتلال السودان انفتح الجنوب للمؤثرات وكان أكبر انفتاح هو الذي تم على عهد الاحتلال البريطاني.
المسيحية التي أدخلها الاحتلال هي المسيحية الأوربية بمذاهبها، وقرر المحتلون إقامة عازل ثقافي بين الشمال والجنوب واحتكروا الجنوب لهوية جديدة انجلوفونية مسيحية أفريقانية.
هذه الهوية الجديدة عبرت عن نفسها بصور مختلفة:
* لدى فترة استقلال السودان عبر الجنوبيون عن رغبتهم في الفدرالية.
* في مرحلة الستينات وعبر مؤتمر المائدة المستديرة، ولجنة الاثنى عشر، ومؤتمر الأحزاب السودانية عبروا عنها بالمطالبة بالحكم الذاتي الإقليمي.
هذا المطلب تبلور أثناء حكم الديمقراطية الثانية (1964- 1969م) التي أطاح بها انقلاب 25 مايو 1969م.
الانقلاب الذي تبنى قادته فكرة الحكم الذاتي الإقليمي، وأبرموا مع حركة الجنوب المسلحة في يوليو 1972م اتفاقية أديس أبابا.
* في مرحلة الثمانينات صار مطلب الحركة الشعبية لتحرير السودان المجسد للهوية الجنوبية الخاصة، هو مؤتمر دستوري يمنح الجنوب حكماً لا مركزياً ونصيباً في السلطة والثروة بحجم سكانه واستثناء الجنوب من تطبيق الأحكام الإسلامية، وتخلي السودان عن أي أحلاف خارجية تمس السيادة (اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان).
كانت هذه هي أجندة المؤتمر القومي الدستوري المزمع عقده في 18/ سبتمبر 1989م، ولكن وقوع انقلاب 30 يونيو 1989م أجهض هذا المشروع.
* النظام الانقلابي لم يتبن تحضيرات الديمقراطية الثالثة (1986 -1989م) كما فعل نظام جعفر نميري مع تحضيرات الديمقراطية الثانية، وبدأ مفاوضاته مع الحركة الشعبية من خانة الصفر.
كانت فكرة تقرير المصير تراود بعض القادة الجنوبيين، ولكنها في عام 1992م صارت لأول مرة في تاريخ مفاوضات السلام محل اتفاق بين مفاوض حكومة «الإنقاذ» د. علي الحاج وفصيل منشق من الحركة الشعبية بقيادة د. لام أكول.
* وفي عام 1992م أظهر النظام الانقلابي لأول مرة بصورة مجردة من التقية التي مارسها النظام منذ بدايته هوية إسلامية عربية ونظم المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي.
ونتيجة لهذا الموقف اجتمعت كل الفصائل السياسية الجنوبية في واشنطن بدعوة من السناتور الأمريكي السابق هاري جونستون في واشنطن، وتداولوا أمر التطورات الجديدة في السودان وقرروا أنه ما دام السودان قد حسم هويته أنها إسلامية وعربية، وقالوا نحن لسنا مسلمين ولا عرباً لذلك اجمعوا لأول مرة على المطالبة بتقرير المصير للجنوب.
* وفي يونيو 1995م اجتمعت كل قوى المعارضة لنظام الإنقاذ في أسمرا عاصمة إريتريا وإزاء إجماع الجنوبيين وافقت المعارضة السودانية عل تقرير المصير للجنوب.
بطلب من حكومة الإنقاذّ في السودان أقدمت دول الإيقاد وهم جيران السودان في القرن الأفريقي على التوسط لإنهاء الحرب الأهلية في السودان، وقبل الشروع في الوساطة اقترحوا على طرفي النزاع الموافقة على إعلان مبادئ من ست نقاط خلاصتها إقامة نظام سوداني ديمقراطي علماني أو منح الجنوب حق تقرير المصير، نظام الإنقاذ في البداية لم يوافق على إعلان المبادئ هذا ولكن في عام 1997م وقع عليه.
* وفي يوليو عام 1997م وقع نظام الإنقاذ مع فصائل منشقة من الحركة الشعبية على اتفاقيات سلام من الداخل منحت الجنوب حق تقرير المصير.
وعبر مفاوضات امتدت من 2002م إلى 2005م وقعت حكومة السودان بقيادة المؤتمر الوطني مع الحركة الشعبية بقيادة د. جون قرنق على اتفاقية سميت بالسلام الشامل في يناير 2005م كان تقرير المصير من أهم بنودها.
اتفاقية السلام الشامل كانت اسماً على غير مسماه، كانت ثنائية فلم تشترك فيها إلا حكومة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. وسميت بالسلام الشامل في وقت فيه الحرب الأهلية دائرة في غرب البلاد وشرقها. ونصت الاتفاقية على مقاصد حميدة هي:
جعل الوحدة جاذبة لدى أجراء تقرير المصير.
* تكوين حكومة جامعة Inclusive) ) لإدارة الفترة الانتقالية (2005- 2011م).
* تحقيق تحول ديمقراطي في البلاد عبر كفالة الحريات العامة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
الاتفاقية لم تحقق هذه المقاصد: فالحكومة التي إدارت الفترة الانتقالية لم تكن جامعة. والتحول الديمقراطي عبر توافر الحريات والانتخابات العامة الحرة لم يتحقق، فالحريات ظلت حبيسة والانتخابات كانت زائفة، أما الوحدة الجاذبة فقد تحقق نقيضها مما جعل الانفصال جاذباً.
العوامل التي جعلت الانفصال جاذباً هي:
عوامل في بنية اتفاقية السلام:
* فبروتوكول ميشاكوس قسم البلاد على أساس ديني أي شمال يحكم بالشريعة وجنوب علماني.. هذا خلاف لتصور آخر كانت لجنة مشتركة بيننا وبين المؤتمر الوطني قد توصلت إليه وهو تخصيص الأحكام الإسلامية على المسلمين واستثناء الآخرين، هذا التقسيم كرس لانفصال جغرافي.
وبروتوكول اقتسام الثروة خصص للجنوب نصف بتروله بدل أن ينسب نصيب الجنوب كما ينبغي للثروة القومية، مما شجع الجنوبيين للمطالبة بالانفصال للاحتفاظ بكل بترول الجنوب للجنوب.
ومن عوامل التنافر أن المؤتمر الوطني ينادي بمشروع حضاري هو مسمى آخر للتوجه الإسلامي والحركة الشعبية تنادي بمشروع السودان الجديد هو مسمى آخر لعلمانية أفريقانية.
التباين بين هذين المشروعين غذى التنافر بين الشريكين في الحكم مما انعكس على تنافر بين الشمال والجنوب
منذ أيامه الأولى اكتسب الحزب الحاكم في الشمال المؤتمر الوطني عداوات خارجية تكونت بموجبها لوبيات متنفذة لا سيما في الولايات المتحدة لوبيات أهمها تسعة:
- لوبى مسيحي لنجدة المسيحيين في السودان.
- ولوبى صهيوني يتدخل بصورة معادية في كل الشئون العربية.
- ولوبى ضد الإرهاب.
- ولوبى حقوق الإنسان
- ولوبى الحريات الدينية.
- ولوبى الأمريكيين من أصل أفريقي.
- ولوبى ضد الرق.
- ولوبى إنقاذ دارفور.
- ولوبى كفاية.
هذه اللوبيات تبنت تعاطفاً نحو الجنوب وعداءاً للمؤتمر الوطني ما شجع الانفصاليين الجنوبيين الميل للانفصال لتجنب العقوبات والسياسات المعادية للمؤتمر الوطني الحاكم في الشمال.
لذلك لا غرابة في ترجيح كفة الانفصال وهناك دلائل ملموسة على ذلك أذكر منها:
- مواكب الشباب في الجنوب الشهرية المؤيدة للانفصال.
- اتجاهات الصحف الناطقة بالانجليزية الداعية غالباً للانفصال.
- تبني قادة الكنائس بعد طول صمت لدعوة الانفصال.
- تحول شخصيات قيادية جنوبية كانت وحدودية نحو الانفصال ? أمثال- جنرال جوزيف لاقو ود. توبي مادوت.
- تبني الحركة الشعبية للانفصال.
صحيح أي قياس للرأي يؤكد ترجيح الانفصال في الاستفتاء. ولكن مهما كان رأي المواطن الجنوبي فسوف يكون الاستفتاء وفق إرادة الحركة الشعبية، لأن قانون الاستفتاء جعلها متحكمة فيه، كما أن مفوضية الاستفتاء المركزية أغلبية أعضائها جنوبيون والصلاحية الحقيقية في يد مكتب المفوضية الجنوبي الذي تسيطر عليه الحركة الشعبية.
إذن: نعم غالبية الجنوبيين مع الانفصال لأسباب ذكرناها، ولكن الاستفتاء لن يكون بأي مقياس ديمقراطي تمريناً ديمقراطياً.
2. القيادة الجنوبية منذ الانتخابات الأخيرة في أبريل 2010م تواجه تحديات عسكرية بحيث أن 3 ولايات من العشر ولايات سيجمد فيها الاستفتاء.
وفي دراسات علمية أجراها خبراء غربيون كثيرون ما يدل على أن دولة الجنوب الجديدة سوف تواجه بعد شهر عسل قصير تحديات هائلة.. أذكر من تلك الدراسات كتاب: تناقضات جنوب السودان الداخلية للأستاذين ماريك شوماروس وتيم ألن الصادر في عام 2010م، ودراسة توماس تالي في مجلة الحروب الصغيرة الصادرة في أكتوبر 2010م، ومقالات في مجلة اكنومست ونيوزويك وغيرها.
دولة الجنوب سوف تواجه في مولدها مشاكل سياسية واقتصادية وأمنية بلا حدود.
واضح أن القيادة الجنوبية الحالية تدرك ذلك، لذلك أقدمت على تجاوز خلافاتها مع خصومها وجمعت كل القوى السياسية الجنوبية في أكتوبر 2010م، واتفقت معهم على خريطة طريق لبناء المستقبل الجنوبي، كما أقدمت على تنشيط علاقاتها بحلفائها الدوليين حيث تحظى بمودة خاصة.
ومع ذلك فإن دولة الجنوب الجديدة تدرك أن دولة الشمال تستطيع زعزعتها عبر العيوب الكثيرة الموجودة في الجسم الجنوبي.
دولة الجنوب الجديدة سوف تحتاج لحليف ويمكن لدولة الشمال السعي للقيام بهذا الدور، وهي تملك مقومات كثيرة إن غيرت سياساتها واستعدت لهذا الدور.
لا سيما ودولة الشمال نفسها سوف تواجه بعد الانفصال مشاكل كثيرة أهمها: أصداء انفصال الجنوب على مشكلة دارفور، والمشاكل المتعلقة بالمناطق المتداخلة مثل أبيي، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق.
والآثار السلبية والتي بدأت تظهر منذ شهر سبتمبر الماضي.
مصلحة الدولتين في انفصال ودي وسياسة شمالية تجعله جاذباً.
إن لهذا الانفصال الودي استحقاقات تقوم على موقف شمالي مستنير من دولة الجنوب الجديدة، وتقوم على دستور شمالي جديد ترتضيه المناطق المتداخلة في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان. دستور يوفر حقوق المواطنة للكافة، ويوفق بين الحقوق المدنية والتوجه الإسلامي، ويعترف بالتنوع الديني والثقافي، ويحقق اللامركزية الفدرالية، ويحقق القسمة العادلة في السلطة والثروة على أسس ديمقراطية.
أما مقولة أنه بعد انفصال الجنوب لا مجال لتعددية دينية وثقافية، وطرح تطبيق الشريعة في تناقض مع التنوع الديني والاثني فعلامات في طريق مدمر، لأن هذه اللغة هي التي أدت لمطلب تقرير المصير ثم انفصال الجنوب وسوف يتكرر السيناريو في السودان الشمالي.
السودان مكون من ثلاث ديانات: الإسلام والمسيحية وأديان أفريقية ومن خمسة اثنيات: عرب ?وزنوج- وبجا ? ونوبة- ونوباويون.
انفصال الجنوب لن يؤثر في هذا التنوع إلا بتقليل عدد الزنوج وعدد المسيحيين،
التنوع الديني والثقافي والاثني من طبائع البشر ومن حقائق الوحي.
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)1، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)2
3. إذا أخفق الشمال في اتخاذ سياسات تجعل الوصال الودي جاذباً، وأخفق في جعل الشمال نفسه مستقراً حول مبادئ توفق بين الوحدة والتنوع، فإن الخيار الآخر الذي سوف تتجه إليه دولة الجنوب الوليدة هو الركون للحليف الخارجي العدائي للشمال، وسيكون لإسرائيل في هذا المجال الدور الأهم.
على طول حركة المقاومة الجنوبية كان ركونها لعنصر خارجي كبيراً.. ولا شك أن أثيوبيا الماركسية، واليمن الجنوبية الماركسية، وليبيا المتحالفة مع المعسكر الشرقي في عام 1982م وقد كونوا حلف عدن قد احتضنوا الحركة الشعبية في مهدها وجعلوها تولد بسنونها، وبعد تجاوز تلك المرحلة اتجهت الحركة الشعبية نحو الغرب، ولكن في المقابل تدرك الحركة الشعبية الآن أن الغرب لا يستطيع أن يفي بما يعد به، وأن لاستعداء الشمال ثمناً باهظاً ومدمراً، لذلك يحتمل أن يستجيب لدواعي علاقة ودية خاصة بالشمال إذا استطاع الشمال نفسه أن يتحدث بلغة سياسية تلائم المرحلة.
المؤتمر الوطني الحزب الحاكم في الشمال في وجه المسؤولية عن انفصال الجنوب، واستمرار أزمة دارفور، والتردي الاقتصادي المحمل بعوامل المواجهات، الملاحقة الجنائية الدولية أمامه خياران:
الأول: أن يعتبر أن تلك المخاطر تهدد مصالحه وسلطانه ولذلك يجب أن يواجهها بالقمع ويلتمس من شعارات الشريعة شرعيته، وسيجد من تيارات الانكفاء الديني دعماً لذلك.. في هذا النهج القمعي يمكن للمؤتمر الوطني محاولة تحييد دولة الجنوب، بينما يوجه بأسه ضد معارضيه في الشمال. هذه هي الخطة التي اتبعها المؤتمر الوطني على طول الفترة الانتقالية، ولكنها لم تنجح في الماضي بل أدت لتحالف بين معارضيه والحركة الشعبية، تحالف ربما استنسخ بصورة أخرى في الظروف الجديدة. النتيجة لهذا كله هي نقل التوتر الذي ساد الفترة الانتقالية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ليكرر نفسه في العلاقة بين دولتي السودان، ولكن طبيعة الظروف الجديدة تجعل أثر المواجهات في اضطرابات الجنوب والشمال، وزعزعة أمن القرن الأفريقي والقاري كبيراً جداً.
الخيار الثاني: أمام الحزب الحاكم في السودان هو اعتبار أن مرحلة الحكم الانفرادي قد انتهت باتفاقية السلام، وأن مرحلة الحكم الثنائي قد انتهت بنهاية اتفاقية السلام، وأن المرحلة القادمة هي مرحلة تحديات كبرى لكتابة دستور جديد، ولتحديد علاقة إيجابية مع الجنوب، ولحسم أزمة دارفور، ولمواجهة الحالة الاقتصادية، ولتوفير الحريات العامة، وللتعامل مع الأسرة الدولية.. هذا النهج ممكن وبموجبه يتحقق التراضي الوطني في الشمال، والعلاقة الأخوية مع الجنوب.
في الختام
إن التجربة السودانية محملة بكثير من العظات للسودانيين ومن الدروس لغيرهم وهي:
أولاً: جدوى انتشار الإسلام بالقوة الناعمة حيث عم البلاد بصورة شاملة منتشراً سلمياً. حقيقة يؤكدها الآن تمدد الإسلام سلمياً في كل القارات رغم ضعف دول المسلمين بالقياس للقوى الإستراتيجية والاقتصادية في العالم، تمدد جعل الإسلام في عالم اليوم القوة الثقافية الكبرى.
ثانياً: خطل محاولة فرض أية برامج أيديولوجية عن طريق الانقلاب العسكري لأسباب موضوعية وهي:
- العسكريون سوف يحرصون على قيادة النظام وهم غالباً غير مؤهلين لذلك.
- يضطرون أمام مطالب الواقع أن يتخذوا سياسات براجماتية مما يعرضهم لتهمة التراجع ويثير ضدهم تيارات معارضة.
- تدريبهم يجعلهم يركنون للقوة الخشنة وسيلة لحسم المشاكل فتتكاثر ضدهم حركات المقاومة المسلحة.
- أما بالنسبة للإسلام فإن أمر المسلمين شورى بينهم وإقامة نظام حكم على الإكراه باطلة.
ثالثاً: إن فرض أحادية ثقافية على مجتمع متعدد الأديان والثقافات من شأنه حتماً أن يؤدي لاستقطابات حادة، لقد قامت الحرب الأهلية في السودان نتيجة لصدام الذهنية التي صنعتها سياسة المناطق المقفولة منذ عام 1922 والذهنية المضادة لها، هذا الصدام زاد حدة نتيجة لأيديولوجية وسياسات نظام الإنقاذ مما عمق أسباب الحرب الأهلية ووسع قواعدها داخلياً وأتاح لها سنداً خارجياً قوياً.
رابعاً: في يوليو القادم من عام 2011م سوف ينتهي عهد اتفاقية سلام نيفاشا. الواجب الوطني، والقومي، والإسلامي، والإنساني يتطلب أن يقف أهل السودان مع الذات لاستخلاص العبرة من تجاربهم ومآلاتها الراهنة لكي يتراضوا على خريطة طريق للتأصيل المجدي ولبناء الوطن، وإلا فإن نكبات الحاضر سوف تتكرر في المستقبل.
والله ولي التوفيق.
* 1 سورة الروم الآية (22)
* 2 سورة البقرة الآية (62)
في افتتاح هذه المائدة المهمة التي نشكر الفضائية المستنيرة الجزيرة على ترتيبها، أود أن أطرح أسئلة مفتاحية وأجيب عليها باختصار لكي تلقى ضوءاً للمناقشات المزمعة.
ما الذي جاء بدعوة تقرير المصير؟ ثم بالانفصال المتوقع؟ وما هي المآلات بعد ذلك؟
1. كان السودان على طول تاريخه ملتقى ثقافات، هذا ما دلت عليه حفريات كرمة ثم آثار كوش، هذه الطبيعة التمازجية جعلت السودان يغير هويته أكثر من مرة سلمياً: فالمسيحية الارثوذكية دخلت السودان سلمياً وأقامت فيه ممالك: نوباتيا- المقرة- وعلوة منذ القرن السادس الميلادي.. ثم دخل الإسلام سلمياً فقامت في السودان ممالك إسلامية الفور- الفونج- والمسبعات- وتقلي- والكنوز، والمدهش أن البلدان التي أسلمت بعد الفتوحات أبقت على أقليات معتبرة من الأديان السابقة كما في الشام والعراق ومصر.. ولكن في السودان لم يبق ولا واحد من أتباع المسيحية.
الاستثناء من هذه القاعدة هو الجنوب الذي حالت ظروف جغرافية من وصول المسيحية الأرثوذكية إليه ثم حالت أيضاً دون وصول الإسلام.
ولكن في مرحلة لاحقة لدى احتلال السودان انفتح الجنوب للمؤثرات وكان أكبر انفتاح هو الذي تم على عهد الاحتلال البريطاني.
المسيحية التي أدخلها الاحتلال هي المسيحية الأوربية بمذاهبها، وقرر المحتلون إقامة عازل ثقافي بين الشمال والجنوب واحتكروا الجنوب لهوية جديدة انجلوفونية مسيحية أفريقانية.
هذه الهوية الجديدة عبرت عن نفسها بصور مختلفة:
* لدى فترة استقلال السودان عبر الجنوبيون عن رغبتهم في الفدرالية.
* في مرحلة الستينات وعبر مؤتمر المائدة المستديرة، ولجنة الاثنى عشر، ومؤتمر الأحزاب السودانية عبروا عنها بالمطالبة بالحكم الذاتي الإقليمي.
هذا المطلب تبلور أثناء حكم الديمقراطية الثانية (1964- 1969م) التي أطاح بها انقلاب 25 مايو 1969م.
الانقلاب الذي تبنى قادته فكرة الحكم الذاتي الإقليمي، وأبرموا مع حركة الجنوب المسلحة في يوليو 1972م اتفاقية أديس أبابا.
* في مرحلة الثمانينات صار مطلب الحركة الشعبية لتحرير السودان المجسد للهوية الجنوبية الخاصة، هو مؤتمر دستوري يمنح الجنوب حكماً لا مركزياً ونصيباً في السلطة والثروة بحجم سكانه واستثناء الجنوب من تطبيق الأحكام الإسلامية، وتخلي السودان عن أي أحلاف خارجية تمس السيادة (اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان).
كانت هذه هي أجندة المؤتمر القومي الدستوري المزمع عقده في 18/ سبتمبر 1989م، ولكن وقوع انقلاب 30 يونيو 1989م أجهض هذا المشروع.
* النظام الانقلابي لم يتبن تحضيرات الديمقراطية الثالثة (1986 -1989م) كما فعل نظام جعفر نميري مع تحضيرات الديمقراطية الثانية، وبدأ مفاوضاته مع الحركة الشعبية من خانة الصفر.
كانت فكرة تقرير المصير تراود بعض القادة الجنوبيين، ولكنها في عام 1992م صارت لأول مرة في تاريخ مفاوضات السلام محل اتفاق بين مفاوض حكومة «الإنقاذ» د. علي الحاج وفصيل منشق من الحركة الشعبية بقيادة د. لام أكول.
* وفي عام 1992م أظهر النظام الانقلابي لأول مرة بصورة مجردة من التقية التي مارسها النظام منذ بدايته هوية إسلامية عربية ونظم المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي.
ونتيجة لهذا الموقف اجتمعت كل الفصائل السياسية الجنوبية في واشنطن بدعوة من السناتور الأمريكي السابق هاري جونستون في واشنطن، وتداولوا أمر التطورات الجديدة في السودان وقرروا أنه ما دام السودان قد حسم هويته أنها إسلامية وعربية، وقالوا نحن لسنا مسلمين ولا عرباً لذلك اجمعوا لأول مرة على المطالبة بتقرير المصير للجنوب.
* وفي يونيو 1995م اجتمعت كل قوى المعارضة لنظام الإنقاذ في أسمرا عاصمة إريتريا وإزاء إجماع الجنوبيين وافقت المعارضة السودانية عل تقرير المصير للجنوب.
بطلب من حكومة الإنقاذّ في السودان أقدمت دول الإيقاد وهم جيران السودان في القرن الأفريقي على التوسط لإنهاء الحرب الأهلية في السودان، وقبل الشروع في الوساطة اقترحوا على طرفي النزاع الموافقة على إعلان مبادئ من ست نقاط خلاصتها إقامة نظام سوداني ديمقراطي علماني أو منح الجنوب حق تقرير المصير، نظام الإنقاذ في البداية لم يوافق على إعلان المبادئ هذا ولكن في عام 1997م وقع عليه.
* وفي يوليو عام 1997م وقع نظام الإنقاذ مع فصائل منشقة من الحركة الشعبية على اتفاقيات سلام من الداخل منحت الجنوب حق تقرير المصير.
وعبر مفاوضات امتدت من 2002م إلى 2005م وقعت حكومة السودان بقيادة المؤتمر الوطني مع الحركة الشعبية بقيادة د. جون قرنق على اتفاقية سميت بالسلام الشامل في يناير 2005م كان تقرير المصير من أهم بنودها.
اتفاقية السلام الشامل كانت اسماً على غير مسماه، كانت ثنائية فلم تشترك فيها إلا حكومة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. وسميت بالسلام الشامل في وقت فيه الحرب الأهلية دائرة في غرب البلاد وشرقها. ونصت الاتفاقية على مقاصد حميدة هي:
جعل الوحدة جاذبة لدى أجراء تقرير المصير.
* تكوين حكومة جامعة Inclusive) ) لإدارة الفترة الانتقالية (2005- 2011م).
* تحقيق تحول ديمقراطي في البلاد عبر كفالة الحريات العامة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
الاتفاقية لم تحقق هذه المقاصد: فالحكومة التي إدارت الفترة الانتقالية لم تكن جامعة. والتحول الديمقراطي عبر توافر الحريات والانتخابات العامة الحرة لم يتحقق، فالحريات ظلت حبيسة والانتخابات كانت زائفة، أما الوحدة الجاذبة فقد تحقق نقيضها مما جعل الانفصال جاذباً.
العوامل التي جعلت الانفصال جاذباً هي:
عوامل في بنية اتفاقية السلام:
* فبروتوكول ميشاكوس قسم البلاد على أساس ديني أي شمال يحكم بالشريعة وجنوب علماني.. هذا خلاف لتصور آخر كانت لجنة مشتركة بيننا وبين المؤتمر الوطني قد توصلت إليه وهو تخصيص الأحكام الإسلامية على المسلمين واستثناء الآخرين، هذا التقسيم كرس لانفصال جغرافي.
وبروتوكول اقتسام الثروة خصص للجنوب نصف بتروله بدل أن ينسب نصيب الجنوب كما ينبغي للثروة القومية، مما شجع الجنوبيين للمطالبة بالانفصال للاحتفاظ بكل بترول الجنوب للجنوب.
ومن عوامل التنافر أن المؤتمر الوطني ينادي بمشروع حضاري هو مسمى آخر للتوجه الإسلامي والحركة الشعبية تنادي بمشروع السودان الجديد هو مسمى آخر لعلمانية أفريقانية.
التباين بين هذين المشروعين غذى التنافر بين الشريكين في الحكم مما انعكس على تنافر بين الشمال والجنوب
منذ أيامه الأولى اكتسب الحزب الحاكم في الشمال المؤتمر الوطني عداوات خارجية تكونت بموجبها لوبيات متنفذة لا سيما في الولايات المتحدة لوبيات أهمها تسعة:
- لوبى مسيحي لنجدة المسيحيين في السودان.
- ولوبى صهيوني يتدخل بصورة معادية في كل الشئون العربية.
- ولوبى ضد الإرهاب.
- ولوبى حقوق الإنسان
- ولوبى الحريات الدينية.
- ولوبى الأمريكيين من أصل أفريقي.
- ولوبى ضد الرق.
- ولوبى إنقاذ دارفور.
- ولوبى كفاية.
هذه اللوبيات تبنت تعاطفاً نحو الجنوب وعداءاً للمؤتمر الوطني ما شجع الانفصاليين الجنوبيين الميل للانفصال لتجنب العقوبات والسياسات المعادية للمؤتمر الوطني الحاكم في الشمال.
لذلك لا غرابة في ترجيح كفة الانفصال وهناك دلائل ملموسة على ذلك أذكر منها:
- مواكب الشباب في الجنوب الشهرية المؤيدة للانفصال.
- اتجاهات الصحف الناطقة بالانجليزية الداعية غالباً للانفصال.
- تبني قادة الكنائس بعد طول صمت لدعوة الانفصال.
- تحول شخصيات قيادية جنوبية كانت وحدودية نحو الانفصال ? أمثال- جنرال جوزيف لاقو ود. توبي مادوت.
- تبني الحركة الشعبية للانفصال.
صحيح أي قياس للرأي يؤكد ترجيح الانفصال في الاستفتاء. ولكن مهما كان رأي المواطن الجنوبي فسوف يكون الاستفتاء وفق إرادة الحركة الشعبية، لأن قانون الاستفتاء جعلها متحكمة فيه، كما أن مفوضية الاستفتاء المركزية أغلبية أعضائها جنوبيون والصلاحية الحقيقية في يد مكتب المفوضية الجنوبي الذي تسيطر عليه الحركة الشعبية.
إذن: نعم غالبية الجنوبيين مع الانفصال لأسباب ذكرناها، ولكن الاستفتاء لن يكون بأي مقياس ديمقراطي تمريناً ديمقراطياً.
2. القيادة الجنوبية منذ الانتخابات الأخيرة في أبريل 2010م تواجه تحديات عسكرية بحيث أن 3 ولايات من العشر ولايات سيجمد فيها الاستفتاء.
وفي دراسات علمية أجراها خبراء غربيون كثيرون ما يدل على أن دولة الجنوب الجديدة سوف تواجه بعد شهر عسل قصير تحديات هائلة.. أذكر من تلك الدراسات كتاب: تناقضات جنوب السودان الداخلية للأستاذين ماريك شوماروس وتيم ألن الصادر في عام 2010م، ودراسة توماس تالي في مجلة الحروب الصغيرة الصادرة في أكتوبر 2010م، ومقالات في مجلة اكنومست ونيوزويك وغيرها.
دولة الجنوب سوف تواجه في مولدها مشاكل سياسية واقتصادية وأمنية بلا حدود.
واضح أن القيادة الجنوبية الحالية تدرك ذلك، لذلك أقدمت على تجاوز خلافاتها مع خصومها وجمعت كل القوى السياسية الجنوبية في أكتوبر 2010م، واتفقت معهم على خريطة طريق لبناء المستقبل الجنوبي، كما أقدمت على تنشيط علاقاتها بحلفائها الدوليين حيث تحظى بمودة خاصة.
ومع ذلك فإن دولة الجنوب الجديدة تدرك أن دولة الشمال تستطيع زعزعتها عبر العيوب الكثيرة الموجودة في الجسم الجنوبي.
دولة الجنوب الجديدة سوف تحتاج لحليف ويمكن لدولة الشمال السعي للقيام بهذا الدور، وهي تملك مقومات كثيرة إن غيرت سياساتها واستعدت لهذا الدور.
لا سيما ودولة الشمال نفسها سوف تواجه بعد الانفصال مشاكل كثيرة أهمها: أصداء انفصال الجنوب على مشكلة دارفور، والمشاكل المتعلقة بالمناطق المتداخلة مثل أبيي، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق.
والآثار السلبية والتي بدأت تظهر منذ شهر سبتمبر الماضي.
مصلحة الدولتين في انفصال ودي وسياسة شمالية تجعله جاذباً.
إن لهذا الانفصال الودي استحقاقات تقوم على موقف شمالي مستنير من دولة الجنوب الجديدة، وتقوم على دستور شمالي جديد ترتضيه المناطق المتداخلة في جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان. دستور يوفر حقوق المواطنة للكافة، ويوفق بين الحقوق المدنية والتوجه الإسلامي، ويعترف بالتنوع الديني والثقافي، ويحقق اللامركزية الفدرالية، ويحقق القسمة العادلة في السلطة والثروة على أسس ديمقراطية.
أما مقولة أنه بعد انفصال الجنوب لا مجال لتعددية دينية وثقافية، وطرح تطبيق الشريعة في تناقض مع التنوع الديني والاثني فعلامات في طريق مدمر، لأن هذه اللغة هي التي أدت لمطلب تقرير المصير ثم انفصال الجنوب وسوف يتكرر السيناريو في السودان الشمالي.
السودان مكون من ثلاث ديانات: الإسلام والمسيحية وأديان أفريقية ومن خمسة اثنيات: عرب ?وزنوج- وبجا ? ونوبة- ونوباويون.
انفصال الجنوب لن يؤثر في هذا التنوع إلا بتقليل عدد الزنوج وعدد المسيحيين،
التنوع الديني والثقافي والاثني من طبائع البشر ومن حقائق الوحي.
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)1، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)2
3. إذا أخفق الشمال في اتخاذ سياسات تجعل الوصال الودي جاذباً، وأخفق في جعل الشمال نفسه مستقراً حول مبادئ توفق بين الوحدة والتنوع، فإن الخيار الآخر الذي سوف تتجه إليه دولة الجنوب الوليدة هو الركون للحليف الخارجي العدائي للشمال، وسيكون لإسرائيل في هذا المجال الدور الأهم.
على طول حركة المقاومة الجنوبية كان ركونها لعنصر خارجي كبيراً.. ولا شك أن أثيوبيا الماركسية، واليمن الجنوبية الماركسية، وليبيا المتحالفة مع المعسكر الشرقي في عام 1982م وقد كونوا حلف عدن قد احتضنوا الحركة الشعبية في مهدها وجعلوها تولد بسنونها، وبعد تجاوز تلك المرحلة اتجهت الحركة الشعبية نحو الغرب، ولكن في المقابل تدرك الحركة الشعبية الآن أن الغرب لا يستطيع أن يفي بما يعد به، وأن لاستعداء الشمال ثمناً باهظاً ومدمراً، لذلك يحتمل أن يستجيب لدواعي علاقة ودية خاصة بالشمال إذا استطاع الشمال نفسه أن يتحدث بلغة سياسية تلائم المرحلة.
المؤتمر الوطني الحزب الحاكم في الشمال في وجه المسؤولية عن انفصال الجنوب، واستمرار أزمة دارفور، والتردي الاقتصادي المحمل بعوامل المواجهات، الملاحقة الجنائية الدولية أمامه خياران:
الأول: أن يعتبر أن تلك المخاطر تهدد مصالحه وسلطانه ولذلك يجب أن يواجهها بالقمع ويلتمس من شعارات الشريعة شرعيته، وسيجد من تيارات الانكفاء الديني دعماً لذلك.. في هذا النهج القمعي يمكن للمؤتمر الوطني محاولة تحييد دولة الجنوب، بينما يوجه بأسه ضد معارضيه في الشمال. هذه هي الخطة التي اتبعها المؤتمر الوطني على طول الفترة الانتقالية، ولكنها لم تنجح في الماضي بل أدت لتحالف بين معارضيه والحركة الشعبية، تحالف ربما استنسخ بصورة أخرى في الظروف الجديدة. النتيجة لهذا كله هي نقل التوتر الذي ساد الفترة الانتقالية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ليكرر نفسه في العلاقة بين دولتي السودان، ولكن طبيعة الظروف الجديدة تجعل أثر المواجهات في اضطرابات الجنوب والشمال، وزعزعة أمن القرن الأفريقي والقاري كبيراً جداً.
الخيار الثاني: أمام الحزب الحاكم في السودان هو اعتبار أن مرحلة الحكم الانفرادي قد انتهت باتفاقية السلام، وأن مرحلة الحكم الثنائي قد انتهت بنهاية اتفاقية السلام، وأن المرحلة القادمة هي مرحلة تحديات كبرى لكتابة دستور جديد، ولتحديد علاقة إيجابية مع الجنوب، ولحسم أزمة دارفور، ولمواجهة الحالة الاقتصادية، ولتوفير الحريات العامة، وللتعامل مع الأسرة الدولية.. هذا النهج ممكن وبموجبه يتحقق التراضي الوطني في الشمال، والعلاقة الأخوية مع الجنوب.
في الختام
إن التجربة السودانية محملة بكثير من العظات للسودانيين ومن الدروس لغيرهم وهي:
أولاً: جدوى انتشار الإسلام بالقوة الناعمة حيث عم البلاد بصورة شاملة منتشراً سلمياً. حقيقة يؤكدها الآن تمدد الإسلام سلمياً في كل القارات رغم ضعف دول المسلمين بالقياس للقوى الإستراتيجية والاقتصادية في العالم، تمدد جعل الإسلام في عالم اليوم القوة الثقافية الكبرى.
ثانياً: خطل محاولة فرض أية برامج أيديولوجية عن طريق الانقلاب العسكري لأسباب موضوعية وهي:
- العسكريون سوف يحرصون على قيادة النظام وهم غالباً غير مؤهلين لذلك.
- يضطرون أمام مطالب الواقع أن يتخذوا سياسات براجماتية مما يعرضهم لتهمة التراجع ويثير ضدهم تيارات معارضة.
- تدريبهم يجعلهم يركنون للقوة الخشنة وسيلة لحسم المشاكل فتتكاثر ضدهم حركات المقاومة المسلحة.
- أما بالنسبة للإسلام فإن أمر المسلمين شورى بينهم وإقامة نظام حكم على الإكراه باطلة.
ثالثاً: إن فرض أحادية ثقافية على مجتمع متعدد الأديان والثقافات من شأنه حتماً أن يؤدي لاستقطابات حادة، لقد قامت الحرب الأهلية في السودان نتيجة لصدام الذهنية التي صنعتها سياسة المناطق المقفولة منذ عام 1922 والذهنية المضادة لها، هذا الصدام زاد حدة نتيجة لأيديولوجية وسياسات نظام الإنقاذ مما عمق أسباب الحرب الأهلية ووسع قواعدها داخلياً وأتاح لها سنداً خارجياً قوياً.
رابعاً: في يوليو القادم من عام 2011م سوف ينتهي عهد اتفاقية سلام نيفاشا. الواجب الوطني، والقومي، والإسلامي، والإنساني يتطلب أن يقف أهل السودان مع الذات لاستخلاص العبرة من تجاربهم ومآلاتها الراهنة لكي يتراضوا على خريطة طريق للتأصيل المجدي ولبناء الوطن، وإلا فإن نكبات الحاضر سوف تتكرر في المستقبل.
والله ولي التوفيق.
* 1 سورة الروم الآية (22)
* 2 سورة البقرة الآية (62)
0 التعليقات :
إرسال تعليق