على أعتاب التحول الديمقراطي الذي تشهده عدة بلدان في المنطقة، لا بد من الإشارة إلى قضية مهمة ترتبط بعلاقة الديمقراطية بالفساد. سيكون من الخطأ في بلدان مثل مصر وتونس حيث العملية الانتقالية قد بدأت منذ شهور، المبالغة بما تعنيه الديمقراطية كنظام سياسي وتحميلها بأكثر مما تحتمل. الديمقراطية هي نظام حكم يقوم على المؤسسات والحكم الدستوري والانتخابات وتداول السلطة والتعددية السياسية وحرية التعبير، وكل واحدة من هذه الأسس بحاجة إلى ثقافة اجتماعية ناضجة من أجل أن تجد لها تطبيقا صحيحا، وحتى لو توافرت تلك الثقافة، فإن الديمقراطية لا تعني أبدا نهاية كل المشاكل والتعقيدات التي حفل بها العهد الديكتاتوري، بل إن مشكلة مثل الفساد قد تشهد تفاقما أو ما يبدو أنه تفاقم في المراحل الأولى من التحول الديمقراطي.
ويشير العديد من الباحثين في علم السياسة، مثل هنتنغتون، إلى أن السنوات الأولى من التحول نحو الديمقراطية غالبا ما تشهد إحباطا اجتماعيا واسعا بل وتوجها لدى كثير من أفراد المجتمع نحو إظهار حنينهم للديكتاتورية. بالطبع مثل هذا الحنين هو تعبير عن خليط من خيبة الأمل التي سبقتها آمال عريضة ومبالغ بها، وتعبير عن النقمة تجاه واقع جديد يتسم بقدر كبير من الفوضوية وعدم الوضوح واللايقينية، تنمو معه مشاعر الخوف من الآتي. شهدنا حصول ذلك في العراق، وها نحن نشهده في تونس ومصر؛ حيث يبدو الكثير من الناس غاضبين لأنهم ببساطة تصوروا أن كل شيء سيتغير سريعا بزوال الديكتاتور وعائلته، ستذهب عصابات النظام والزمر التي استفادت منه، وستنتهي كل الممارسات التي أثارت غضبهم في البداية ودفعتهم إلى الخروج للشوارع بالملايين. للأسف، إن لحظة الاحتفال بنهاية الديكتاتور ليست سوى نشوة قصيرة، بعدها يأتي أوان العمل الصعب والشاق الذي يحتاج إلى نفس طويل وإلى تحمل ما سيعبر عنه بعض الناس، لا سيما الأقل تعلما، من حنين للماضي. لا يكفي أن نصف كل من يعتدي على المحتجين بأنه بلطجي، علينا أن نفهم أن هنالك طبقات واسعة لا يهمها من حديث الديمقراطية شيء بقدر ما يهمها الحصول على قوتها اليومي، وبالنسبة لها فإن قيما مجردة كالحرية والكرامة ليست قابلة للفهم، وعندما يقال لهؤلاء إن المحتجين يقطعون رزقكم، قد يبادر بعضهم إلى رد فعل عنيف من النوع الذي شهدناه في غير مكان.
المسألة الأهم التي يجب أن يتم إدراكها، هي أن الديمقراطية لا تعني نهاية الفساد، وهي لا تعني بالتأكيد الرخاء الاجتماعي والاقتصادي. الديمقراطية تنطوي أيضا على أشكال الفساد الخاصة بها، التي قد تبدو أحيانا أكثر سوءا من الفساد في الزمن الديكتاتوري. ففي ظل الديكتاتورية، غالبا ما تكون هنالك محدودية في عدد المستفيدين من النظام والزمر التي تحظى بالإثراء عن طريقه، وهي غالبا ما ترتبط بعائلة الزعيم وحاشيته، ولأن من طبيعة الديكتاتورية أنها نظام يقوم على إقصاء الأغلبية، فإن دخول تلك الحاشية ليس بالأمر السهل. والنظام الديكتاتوري قد يسعى أحيانا لمحاربة الفساد ليس لإرضاء الناس بقدر ما يكون هدفه حصر الفساد بالدائرة الموالية للنظام التي تدخل مع السلطة بعلاقة تخادم.
خلال التحول الديمقراطي، قد يشهد الفساد استشراء لأسباب عديدة. فضعف السلطة المرافق لمثل هذا التحول يؤدي إلى إضعاف قنوات الضبط والسيطرة على المال العام، والانفتاح الإعلامي يسهل تغطية هذه القضايا بشكل علني لم يكن متاحا في السابق. كما أن صعود نخب سياسية جديدة إلى المسرح السياسي قد يرافقه نزعة لتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز أرصدتها المالية بما يجعلها قادرة على البقاء في المسرح السياسي، وكما شهدنا في الحالة العراقية مثلا. الأهم من ذلك، أن الديمقراطية تقوم على نشر وتوزيع السلطة بدلا من مركزتها في يد واحدة، وكل توزيع للسلطة يرافقه توزيع للموارد وبالتالي فتح لقنوات إضافية للإثراء غير المشروع.
في العراق أدى انتشار السلطة ووجود عدة كتل سياسية في البرلمان والحكومة ومؤسسات الدولة إلى نمط من المحاصصة أصبح معه لدى كل حزب مؤسساته التي يحتكر السيطرة عليها والتي من خلالها يقوم بتوظيف المال العام لخدمة مريديه ومصالحه، والأخطر من ذلك، أنه مع ما يبدو من ضلوع للجميع في الفساد أو التساهل معه، باتت الكتل السياسية تقوم بدور حماية المفسد الذي ينتمي أو يتعاطف مع هذه الكتلة أو تلك، بحيث تم القضاء على دور البرلمان كمؤسسة للمراقبة والمحاسبة عندما صار من المتعذر محاسبة مسؤول أو مؤسسة معينة دون توافق جميع الكتل الكبيرة. وحيث إنه لا توجد مؤسسة ولا يوجد مسؤول غير مرتبط بكتلة، بات من المتعذر إجراء أي عملية محاسبة حقيقية. في هذه الحالة انتهينا إلى ما يمكن تسميته مجازا بإعادة إنتاج الفساد عبر المؤسسات الديمقراطية. بالطبع يعكس ذلك وبوضوح عدم رسوخ القيم المؤسساتية لدى النخبة السياسية العراقية، ولدى المجتمع بطبيعة الحال، ولن يكون ذلك مفاجئا، إذ إن المجتمع العراقي شأنه شأن المجتمعات العربية الأخرى لم يعرف الممارسة الديمقراطية وحكم المؤسسات طوال تاريخه، ولا ينتظر منه أن يتحول إلى مجتمع ديمقراطي في فترة زمنية قصيرة، خصوصا أن النشاط الاقتصادي نفسه الذي يقوم على هيمنة الدولة وضعف القطاع الخاص لا يسهم بنمو طبقة وسطى ومجتمع مدني حديث، وهما من لوازم الحكم الديمقراطي.
مع ذلك، فإنه حتى مع احتمال ترسخ الديمقراطية مستقبلا، فإن النظام الديمقراطي له أنماطه الخاصة في إنتاج الفساد أو التلاعب، حتى في دولة ديمقراطية عريقة مثل الولايات المتحدة نشهد اليوم أن مناكفات الجمهوريين مع الديمقراطيين وصلت حد عرقلة حل مشكلة الدين العام، أساسا لأن الجمهوريين لا يريدون رفع الضرائب على الطبقات الغنية وشركات السلاح الممولة لهم، حتى لو أدى الأمر إلى إضعاف وربما انهيار الدولار.
سبق لونستون تشرشل أن وصف النظام الديمقراطي بأنه سيئ، لكنه الأقل سوءا بين الأنظمة السياسية. لذلك من الضروري تجنب رفع سقف التوقعات بشأن ما يمكن للديمقراطية أن تفعله، فهي وإن أقامت النظام الأقل سوءا فإن التطبيق يظل دائما بيد البشر الذين يتصرفون بواعز من مصالحهم ورغباتهم، ويحاولون في الغالب أن يغلفوها بأحلى العبارات عن الأخلاق والقيم. ألا يكفي مثلا أن الكتل السياسية العراقية تعلن نهارا جهارا أنها ضد الفساد وتشدد على ضرورة محاربة المفسدين!!
-------------------------------
*نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية
ويشير العديد من الباحثين في علم السياسة، مثل هنتنغتون، إلى أن السنوات الأولى من التحول نحو الديمقراطية غالبا ما تشهد إحباطا اجتماعيا واسعا بل وتوجها لدى كثير من أفراد المجتمع نحو إظهار حنينهم للديكتاتورية. بالطبع مثل هذا الحنين هو تعبير عن خليط من خيبة الأمل التي سبقتها آمال عريضة ومبالغ بها، وتعبير عن النقمة تجاه واقع جديد يتسم بقدر كبير من الفوضوية وعدم الوضوح واللايقينية، تنمو معه مشاعر الخوف من الآتي. شهدنا حصول ذلك في العراق، وها نحن نشهده في تونس ومصر؛ حيث يبدو الكثير من الناس غاضبين لأنهم ببساطة تصوروا أن كل شيء سيتغير سريعا بزوال الديكتاتور وعائلته، ستذهب عصابات النظام والزمر التي استفادت منه، وستنتهي كل الممارسات التي أثارت غضبهم في البداية ودفعتهم إلى الخروج للشوارع بالملايين. للأسف، إن لحظة الاحتفال بنهاية الديكتاتور ليست سوى نشوة قصيرة، بعدها يأتي أوان العمل الصعب والشاق الذي يحتاج إلى نفس طويل وإلى تحمل ما سيعبر عنه بعض الناس، لا سيما الأقل تعلما، من حنين للماضي. لا يكفي أن نصف كل من يعتدي على المحتجين بأنه بلطجي، علينا أن نفهم أن هنالك طبقات واسعة لا يهمها من حديث الديمقراطية شيء بقدر ما يهمها الحصول على قوتها اليومي، وبالنسبة لها فإن قيما مجردة كالحرية والكرامة ليست قابلة للفهم، وعندما يقال لهؤلاء إن المحتجين يقطعون رزقكم، قد يبادر بعضهم إلى رد فعل عنيف من النوع الذي شهدناه في غير مكان.
المسألة الأهم التي يجب أن يتم إدراكها، هي أن الديمقراطية لا تعني نهاية الفساد، وهي لا تعني بالتأكيد الرخاء الاجتماعي والاقتصادي. الديمقراطية تنطوي أيضا على أشكال الفساد الخاصة بها، التي قد تبدو أحيانا أكثر سوءا من الفساد في الزمن الديكتاتوري. ففي ظل الديكتاتورية، غالبا ما تكون هنالك محدودية في عدد المستفيدين من النظام والزمر التي تحظى بالإثراء عن طريقه، وهي غالبا ما ترتبط بعائلة الزعيم وحاشيته، ولأن من طبيعة الديكتاتورية أنها نظام يقوم على إقصاء الأغلبية، فإن دخول تلك الحاشية ليس بالأمر السهل. والنظام الديكتاتوري قد يسعى أحيانا لمحاربة الفساد ليس لإرضاء الناس بقدر ما يكون هدفه حصر الفساد بالدائرة الموالية للنظام التي تدخل مع السلطة بعلاقة تخادم.
خلال التحول الديمقراطي، قد يشهد الفساد استشراء لأسباب عديدة. فضعف السلطة المرافق لمثل هذا التحول يؤدي إلى إضعاف قنوات الضبط والسيطرة على المال العام، والانفتاح الإعلامي يسهل تغطية هذه القضايا بشكل علني لم يكن متاحا في السابق. كما أن صعود نخب سياسية جديدة إلى المسرح السياسي قد يرافقه نزعة لتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز أرصدتها المالية بما يجعلها قادرة على البقاء في المسرح السياسي، وكما شهدنا في الحالة العراقية مثلا. الأهم من ذلك، أن الديمقراطية تقوم على نشر وتوزيع السلطة بدلا من مركزتها في يد واحدة، وكل توزيع للسلطة يرافقه توزيع للموارد وبالتالي فتح لقنوات إضافية للإثراء غير المشروع.
في العراق أدى انتشار السلطة ووجود عدة كتل سياسية في البرلمان والحكومة ومؤسسات الدولة إلى نمط من المحاصصة أصبح معه لدى كل حزب مؤسساته التي يحتكر السيطرة عليها والتي من خلالها يقوم بتوظيف المال العام لخدمة مريديه ومصالحه، والأخطر من ذلك، أنه مع ما يبدو من ضلوع للجميع في الفساد أو التساهل معه، باتت الكتل السياسية تقوم بدور حماية المفسد الذي ينتمي أو يتعاطف مع هذه الكتلة أو تلك، بحيث تم القضاء على دور البرلمان كمؤسسة للمراقبة والمحاسبة عندما صار من المتعذر محاسبة مسؤول أو مؤسسة معينة دون توافق جميع الكتل الكبيرة. وحيث إنه لا توجد مؤسسة ولا يوجد مسؤول غير مرتبط بكتلة، بات من المتعذر إجراء أي عملية محاسبة حقيقية. في هذه الحالة انتهينا إلى ما يمكن تسميته مجازا بإعادة إنتاج الفساد عبر المؤسسات الديمقراطية. بالطبع يعكس ذلك وبوضوح عدم رسوخ القيم المؤسساتية لدى النخبة السياسية العراقية، ولدى المجتمع بطبيعة الحال، ولن يكون ذلك مفاجئا، إذ إن المجتمع العراقي شأنه شأن المجتمعات العربية الأخرى لم يعرف الممارسة الديمقراطية وحكم المؤسسات طوال تاريخه، ولا ينتظر منه أن يتحول إلى مجتمع ديمقراطي في فترة زمنية قصيرة، خصوصا أن النشاط الاقتصادي نفسه الذي يقوم على هيمنة الدولة وضعف القطاع الخاص لا يسهم بنمو طبقة وسطى ومجتمع مدني حديث، وهما من لوازم الحكم الديمقراطي.
مع ذلك، فإنه حتى مع احتمال ترسخ الديمقراطية مستقبلا، فإن النظام الديمقراطي له أنماطه الخاصة في إنتاج الفساد أو التلاعب، حتى في دولة ديمقراطية عريقة مثل الولايات المتحدة نشهد اليوم أن مناكفات الجمهوريين مع الديمقراطيين وصلت حد عرقلة حل مشكلة الدين العام، أساسا لأن الجمهوريين لا يريدون رفع الضرائب على الطبقات الغنية وشركات السلاح الممولة لهم، حتى لو أدى الأمر إلى إضعاف وربما انهيار الدولار.
سبق لونستون تشرشل أن وصف النظام الديمقراطي بأنه سيئ، لكنه الأقل سوءا بين الأنظمة السياسية. لذلك من الضروري تجنب رفع سقف التوقعات بشأن ما يمكن للديمقراطية أن تفعله، فهي وإن أقامت النظام الأقل سوءا فإن التطبيق يظل دائما بيد البشر الذين يتصرفون بواعز من مصالحهم ورغباتهم، ويحاولون في الغالب أن يغلفوها بأحلى العبارات عن الأخلاق والقيم. ألا يكفي مثلا أن الكتل السياسية العراقية تعلن نهارا جهارا أنها ضد الفساد وتشدد على ضرورة محاربة المفسدين!!
-------------------------------
*نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية
Posted in:
0 التعليقات :
إرسال تعليق