ما بين غرفة صغيرة تطل على ميدان الشهداء في بنغازي، وقاعة كبيرة في فندق «شيراتون» الدوحة، وعبر بلاد ومدن بمنطقة الشرق الأوسط، يحاول الليبيون ترسيخ مبدأ إطلاق حرية الكلام والنقاش، دون مقاطعة من القاعة لمن يتحدث على المنصة، ودون اللجوء إلى السلاح الموجود أصلا في أيدي نحو ثلاثمائة مجلس عسكري، منها 123 مجلسا في العاصمة طرابلس وحدها. ومن أسوأ ما تركته ثورات الربيع العربي عدم النظام في الاستماع والرد والتحاجج بطرح وجهات النظر، بعيدا عن الهجوم الكلامي والتخويني والإقصائي. لكن العدد المتزايد من المؤسسات الأهلية التي يجري تأسيسها منذ سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي، تدفع، وإن كان ببطء، في اتجاه ترسيخ مبدأ الحوار وقبول الآخر، ومنح الخصوم فرصة لتوضيح أنفسهم وأفكارهم قبل الرد عليهم بالكلام أيضا، لا بالسلاح أو العراك أو الضرب بالكراسي.
ويقول حسين جمعة، وكيل جمعية الغد الحقوقية في بنغازي: «ما زال حظ النجاح للمؤتمرات والندوات التي تعقد بالخارج أفضل من حظ تلك التي تعقد بالداخل. ففي الخارج يمكن الحديث بحرية أكثر، ويمكن دعوة باحثين وخبراء أجانب، أو ليبيين ينظر إليهم البعض بأنهم ليسوا من الثوار، للاستماع إلى رؤيتهم للمستقبل، من دون حساسية».
ويقول محمود مسعود، الناشط الحقوقي الليبي في طبرق، إن تراجع حدة النقاش والاعتماد على العقل لا العواطف لم يكن يحدث من قبل، مذكرا بندوة عقدتها جمعيته الحقوقية المعنية بالتسامح، شهدت عراكا بالمقاعد الخشبية، قبل أن يتطور لمحاولة الانتقام باستخدام السلاح في شوارع المدينة التي تغص بالإسلاميين والقوميين والقبليين. وأسس أكاديميون ونشطاء ليبيون ما يزيد على تسعين من المراكز والجمعيات الأهلية والحقوقية أثناء فترة تحرير البلاد من حكم القذافي، التي استمرت من فبراير (شباط) الماضي، حتى مقتل القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن عددا منها تم تأسيسه في الخارج، إما بسبب القلاقل التي كانت منتشرة في ليبيا في تلك الفترة، أو بسبب الرغبة في العمل بعيدا عن الواقع المحلي المشحون بالتربص.
وفي الدوحة، وعلى مدى ثلاثة أيام، نظم المركز الليبي للدراسات والبحوث مؤتمرا تحت عنوان «ليبيا من الثورة إلى الدولة: تحديات المرحلة الانتقالية». وقال مدير المركز، طارق القزيزي، إن فكرة إنشاء المركز تبلورت قبيل تحرير العاصمة طرابلس في أغسطس (آب) الماضي، بينما أوضحت الدكتورة آمال العبيدي، رئيسة وحدة البحوث والدراسات بالمركز، لـ«الشرق الأوسط» إن دور المركز الآن هو أن يكون مؤسسة تدعم الحوار الوطني من خلال تبني المواضيع ذات العلاقة بالمرحلة الانتقالية، مثل التنوع السياسي والبناء المؤسسي والدستوري وطبيعة التغيرات الثقافية والسياسية في ليبيا.
وحول كون مقر المركز في الدوحة لا طرابلس، قالت العبيدي إنه يسهل التواصل مع الباحثين من دول العالم، وإنه خلال الفترة المقبلة سيتم نقل المركز إلى ليبيا، إلا أن خالد محجوب، مدير إدارة الشؤون المساندة بالمركز، قال إن الظروف في ليبيا الآن تسمح بإقامة مؤتمر للمركز فيها، خاصة في المنطقة الشرقية، مشيرا إلى أن أهم القضايا المحورية التي تناولها المؤتمر الذي عقد الأسبوع الماضي؛ الشكل السياسي الذي يمكن أن تكون عليه ليبيا من مختلف الافتراضات والزوايا، والوصول لاستقرار أمني في أسرع وقت ممكن.
وظاهرة مقاطعة أحد الحضور في القاعة للمتحدث على المنصة في مؤتمر أو ندوة انتشرت بعد سقوط الأنظمة العربية في تونس ومصر وليبيا، بسبب تباين رؤى الناس حول المستقبل، لكن محجوب يقول إن الظاهرة آخذة في التراجع، مع رغبة الأطراف في سماع بعضهم وفهم بعضهم بعضا. ولم يشهد المؤتمر الأخير، الذي عقد بالدوحة، إلا مقاطعة محدودة من أحد الثوار الليبيين حين أخذ يردد «الله أكبر.. الله أكبر»، مقاطعا بذلك كلمة كان يلقيها الدكتور يوسف الصواني، الأستاذ في جامعة طرابلس، وأحد المقربين سابقا من سيف الإسلام، نجل القذافي.
ويتحدث البعض الآخر بصراحة، وبطريقة ربما لا يمكن اتباعها داخل ليبيا. ويقول محمد العلاقي، رئيس المجلس الوطني الليبي للحريات العامة وحقوق الإنسان: «الكثير من مواد الإعلان الدستوري هي عبارة عن عبث دستوري»، منتقدا حرمان حاملي الجنسيات الأجنبية، الذين قال إنهم شاركوا وشارك أبناؤهم بشكل واضح في الثورة، من الترشح في الانتخابات.
وفي الأسابيع الثلاثة الأخيرة، عقدت عدة مراكز بحثية وحقوقية مؤتمرات وندوات، حضرت «الشرق الأوسط» جانبا منها، في طبرق والدوحة والقاهرة. ولوحظ أن التخوف الوحيد الذي كان سائدا في هذه المؤتمرات والندوات كان يتعلق بتوقع هجوم من «القاعدة» على المتحدثين على المنصة. وبالمقارنة بندوات ومؤتمرات عقدت في طرابلس والقاهرة في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، كانت المؤتمرات والندوات التي عقدت أخيرا؛ سواء في طرابلس أو بنغازي أو الدوحة أقل حدة وأكثر ميلا من جانب الحضور والمشاركين، لإعطاء الطرف الآخر فرصة.
ويقول الدكتور تيم نيبلوك، الأستاذ في معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة، أثناء إدارته لجلسة من جلسات مؤتمر المركز الليبي للدراسات والبحوث، إنه لا بد من العودة إلى نوع من القواعد الشرعية التشاركية والديمقراطية، لأن هناك مشكلات تتعلق بالمجتمع المدني والحياة السياسية. بينما تحدث الدكتور دريك فاندفال، الأستاذ بكلية دارتموث بالولايات المتحدة، عن ضرورة الإجابة عن الكثير من الأسئلة بشكل واضح حول المصالحة والمشاركة في العهد الجديد في ليبيا، قائلا إنه «ربما ليس هناك بعد التقدم الذي كان مأمولا في هذا الاتجاه».
وفي الوقت الحالي داخل ليبيا، يقول علي جبريل، عضو ووكيل مؤسس حزب «ليبيا المستقبل» في طرابلس، إنه من الأفضل لتلك المراكز الخدمة على أرض الواقع، خاصة ونحن الآن في مرحلة بناء الدولة.. كما أن ما يقع من حوادث في الفترة الأخيرة أصبح مجرد حوادث فردية»، مشيرا إلى وجود مراكز نشطة، منها حركة «12/ 12» لتصحيح المسار في ليبيا، وجمعيات أخرى تطالب بالشفافية.
وبشأن مستوى الحوار الداخلي في المجتمع الليبي، ودرجة تقبل الآخر للآراء التي قد تتعارض مع توجهات هذا أو ذاك، أوضح جبريل أن المفروض أن يطرح المتحدث ما عنده دون أن يقوم بتخوين الآخر، ويترك الشعب يختار، لافتا إلى واقعة قام فيها أحد الدعاة قبل يومين، بمدح الإسلاميين وذم الليبراليين والعلمانيين، في خطبة الجمعة بالمسجد، وقال: «مثل هذه الوقائع تزيد الاحتقان ولا تخففه».
----------------
صحف
ويقول حسين جمعة، وكيل جمعية الغد الحقوقية في بنغازي: «ما زال حظ النجاح للمؤتمرات والندوات التي تعقد بالخارج أفضل من حظ تلك التي تعقد بالداخل. ففي الخارج يمكن الحديث بحرية أكثر، ويمكن دعوة باحثين وخبراء أجانب، أو ليبيين ينظر إليهم البعض بأنهم ليسوا من الثوار، للاستماع إلى رؤيتهم للمستقبل، من دون حساسية».
ويقول محمود مسعود، الناشط الحقوقي الليبي في طبرق، إن تراجع حدة النقاش والاعتماد على العقل لا العواطف لم يكن يحدث من قبل، مذكرا بندوة عقدتها جمعيته الحقوقية المعنية بالتسامح، شهدت عراكا بالمقاعد الخشبية، قبل أن يتطور لمحاولة الانتقام باستخدام السلاح في شوارع المدينة التي تغص بالإسلاميين والقوميين والقبليين. وأسس أكاديميون ونشطاء ليبيون ما يزيد على تسعين من المراكز والجمعيات الأهلية والحقوقية أثناء فترة تحرير البلاد من حكم القذافي، التي استمرت من فبراير (شباط) الماضي، حتى مقتل القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن عددا منها تم تأسيسه في الخارج، إما بسبب القلاقل التي كانت منتشرة في ليبيا في تلك الفترة، أو بسبب الرغبة في العمل بعيدا عن الواقع المحلي المشحون بالتربص.
وفي الدوحة، وعلى مدى ثلاثة أيام، نظم المركز الليبي للدراسات والبحوث مؤتمرا تحت عنوان «ليبيا من الثورة إلى الدولة: تحديات المرحلة الانتقالية». وقال مدير المركز، طارق القزيزي، إن فكرة إنشاء المركز تبلورت قبيل تحرير العاصمة طرابلس في أغسطس (آب) الماضي، بينما أوضحت الدكتورة آمال العبيدي، رئيسة وحدة البحوث والدراسات بالمركز، لـ«الشرق الأوسط» إن دور المركز الآن هو أن يكون مؤسسة تدعم الحوار الوطني من خلال تبني المواضيع ذات العلاقة بالمرحلة الانتقالية، مثل التنوع السياسي والبناء المؤسسي والدستوري وطبيعة التغيرات الثقافية والسياسية في ليبيا.
وحول كون مقر المركز في الدوحة لا طرابلس، قالت العبيدي إنه يسهل التواصل مع الباحثين من دول العالم، وإنه خلال الفترة المقبلة سيتم نقل المركز إلى ليبيا، إلا أن خالد محجوب، مدير إدارة الشؤون المساندة بالمركز، قال إن الظروف في ليبيا الآن تسمح بإقامة مؤتمر للمركز فيها، خاصة في المنطقة الشرقية، مشيرا إلى أن أهم القضايا المحورية التي تناولها المؤتمر الذي عقد الأسبوع الماضي؛ الشكل السياسي الذي يمكن أن تكون عليه ليبيا من مختلف الافتراضات والزوايا، والوصول لاستقرار أمني في أسرع وقت ممكن.
وظاهرة مقاطعة أحد الحضور في القاعة للمتحدث على المنصة في مؤتمر أو ندوة انتشرت بعد سقوط الأنظمة العربية في تونس ومصر وليبيا، بسبب تباين رؤى الناس حول المستقبل، لكن محجوب يقول إن الظاهرة آخذة في التراجع، مع رغبة الأطراف في سماع بعضهم وفهم بعضهم بعضا. ولم يشهد المؤتمر الأخير، الذي عقد بالدوحة، إلا مقاطعة محدودة من أحد الثوار الليبيين حين أخذ يردد «الله أكبر.. الله أكبر»، مقاطعا بذلك كلمة كان يلقيها الدكتور يوسف الصواني، الأستاذ في جامعة طرابلس، وأحد المقربين سابقا من سيف الإسلام، نجل القذافي.
ويتحدث البعض الآخر بصراحة، وبطريقة ربما لا يمكن اتباعها داخل ليبيا. ويقول محمد العلاقي، رئيس المجلس الوطني الليبي للحريات العامة وحقوق الإنسان: «الكثير من مواد الإعلان الدستوري هي عبارة عن عبث دستوري»، منتقدا حرمان حاملي الجنسيات الأجنبية، الذين قال إنهم شاركوا وشارك أبناؤهم بشكل واضح في الثورة، من الترشح في الانتخابات.
وفي الأسابيع الثلاثة الأخيرة، عقدت عدة مراكز بحثية وحقوقية مؤتمرات وندوات، حضرت «الشرق الأوسط» جانبا منها، في طبرق والدوحة والقاهرة. ولوحظ أن التخوف الوحيد الذي كان سائدا في هذه المؤتمرات والندوات كان يتعلق بتوقع هجوم من «القاعدة» على المتحدثين على المنصة. وبالمقارنة بندوات ومؤتمرات عقدت في طرابلس والقاهرة في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، كانت المؤتمرات والندوات التي عقدت أخيرا؛ سواء في طرابلس أو بنغازي أو الدوحة أقل حدة وأكثر ميلا من جانب الحضور والمشاركين، لإعطاء الطرف الآخر فرصة.
ويقول الدكتور تيم نيبلوك، الأستاذ في معهد الدراسات العربية والإسلامية في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة، أثناء إدارته لجلسة من جلسات مؤتمر المركز الليبي للدراسات والبحوث، إنه لا بد من العودة إلى نوع من القواعد الشرعية التشاركية والديمقراطية، لأن هناك مشكلات تتعلق بالمجتمع المدني والحياة السياسية. بينما تحدث الدكتور دريك فاندفال، الأستاذ بكلية دارتموث بالولايات المتحدة، عن ضرورة الإجابة عن الكثير من الأسئلة بشكل واضح حول المصالحة والمشاركة في العهد الجديد في ليبيا، قائلا إنه «ربما ليس هناك بعد التقدم الذي كان مأمولا في هذا الاتجاه».
وفي الوقت الحالي داخل ليبيا، يقول علي جبريل، عضو ووكيل مؤسس حزب «ليبيا المستقبل» في طرابلس، إنه من الأفضل لتلك المراكز الخدمة على أرض الواقع، خاصة ونحن الآن في مرحلة بناء الدولة.. كما أن ما يقع من حوادث في الفترة الأخيرة أصبح مجرد حوادث فردية»، مشيرا إلى وجود مراكز نشطة، منها حركة «12/ 12» لتصحيح المسار في ليبيا، وجمعيات أخرى تطالب بالشفافية.
وبشأن مستوى الحوار الداخلي في المجتمع الليبي، ودرجة تقبل الآخر للآراء التي قد تتعارض مع توجهات هذا أو ذاك، أوضح جبريل أن المفروض أن يطرح المتحدث ما عنده دون أن يقوم بتخوين الآخر، ويترك الشعب يختار، لافتا إلى واقعة قام فيها أحد الدعاة قبل يومين، بمدح الإسلاميين وذم الليبراليين والعلمانيين، في خطبة الجمعة بالمسجد، وقال: «مثل هذه الوقائع تزيد الاحتقان ولا تخففه».
----------------
صحف
0 التعليقات :
إرسال تعليق