من بين قضايا العصر الضرورية المشروعة والمعقدة والمتداخلة
|
لندن: صفات سلامة
الحديث عن الخطاب الديني وتجديده، من بين قضايا العصر الضرورية المشروعة والمعقدة والمتداخلة، وبخاصة في ضوء مستجدات ومتطلبات وتحديات الواقع المعاصر، الذي لم يعد سمته الجمود والانغلاق والانعزالية والتقليد، بل الحراك والانفتاح والإبداع، حتى يتمكن هذا الخطاب من مواجهة قضايا وهموم الأفراد والمجتمعات والارتقاء بشخصية وإمكانات الأفراد وتعزيز القيم الإنسانية التي تسهم في تنمية المجتمعات، كما أن الخطاب الديني المتجدد أصبح ضرورة للإسهام بفاعلية في مخاطبة والحوار مع الآخر.
والتجديد في الخطاب الديني، لا يكون في ثوابت وأصول الدين والعقيدة، وإنما تطوير لغته ومضمونه والمطالبة بأخذ كل ما هو جديد لمواكبة الواقع المعاصر والتغيرات الحادثة والمستجدات المستمرة، وما يحيط بها من تحديات.
والخطاب الديني وتجديده، ليس عملا عشوائيا ارتجاليا، وإنما عمل وبرنامج فكري شامل متكامل، يسبقه أهداف وخطط وأساليب واستراتيجيات ومتطلبات مادية وبشرية تشمل الفرد الداعية ومؤسسات الدعوة ومؤسسات المجتمع كافة. وحيث إن الأديان تشكل جانبا ومكونا أساسيا من مكونات هوية الأفراد والمجتمعات، لذا فإن للخطاب الديني تأثيرا مهما في تشكيل وتوجيه أفكار وسلوكيات ومشاعر ووجدان الأفراد في المجتمعات.
وتمثل الأحداث والقضايا المعاصرة والمتسارعة في عالمنا العربي، وكذلك التغيرات والتحولات العالمية، دعوة صريحة ومتجددة لتجديد الخطاب الديني، ليتماشى مع عوامل الزمان والمكان، مستلهما ومستشهدا بالتعاليم والمبادئ والقيم الدينية، لتشكيل والارتقاء بشخصية الأفراد ونشر القيم الإنسانية وتعزيز السلوكيات الاجتماعية الصحيحة، التي تدعو إليها جميع الأديان، الأمر الذي يسهم في النهاية في التنمية البشرية وتطوير المجتمعات العربية.
والتجديد سنة من سنن الكون وضرورة من ضرورات العصر التي لا غنى عنها، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، والفرد والمجتمع معنيان دائما بالتجديد والتحديث والتغيير والإبداع، لما ينطوى عليه ذلك من تطور وتقدم، ويتوقف التجديد على فهم الواقع والتعرف على سلبياته ومحاولة علاجها.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل هناك إشكاليات وتساؤلات وتحديات تعوق تجديد الخطاب الديني في عالمنا العربي في العصر الحاضر؟.
نشير أولا إلى أن هناك مكونات أساسية للخطاب الديني، هي: الرسالة من حيث محتواها ومضمونها ولغتها، والمرسل وهو الفرد الذي تقع على عاتقه مسؤولية توصيل مضمون الخطاب الديني، والمستقبل وهو الجمهور الذي توجه إليه الرسالة ليستفيد منها في حياته، ووسائل الاتصال اللازمة والمناسبة وتشمل وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة وبخاصة كيفية استثمار التكنولوجيا الحديثة، هذا بالإضافة إلى أهمية عنصر التقويم والمتابعة المستمرة سواء على مستوى الأفراد أو الفرد الداعية أو مستوى مؤسسات الدعوة أو الإعلام أو مؤسسات المجتمع عموما.
وتشير الدلائل الحالية إلى أن هناك بالفعل العديد من الإشكاليات المتزايدة، التي تتطلب تجديد الخطاب الديني وتحقيقه لأهدافه المنشودة، والتي من بينها: أن أسلوب الخطاب الديني الحالي في مخاطبته للفرد، قد يكون خطابا إنشائيا تقليديا جامدا يركز على جانب ويهمل جوانب أخرى، على سبيل المثال عند تعامل الخطاب الديني مع العقائد الدينية نجد أن بعض الدعاة يقفون عند ظواهر النصوص من دون محاولة منهم للتفكر والتأمل فيها والتعرف على مقاصدها وأهدافها الحقيقية والأخذ بها، والتي تفيد في علاج جوانب من حياة ومعاناة ومشكلات الإنسان اليومية وتطلعات المجتمعات، وبالتالي لا يجد الخطاب طريقا للوصول والتواصل بنجاح مع الأفراد. كما أن مضمون الخطاب الديني يمكن أن يؤجج الخلافات والصدامات بين أفراد الدين الواحد أو الأديان الأخرى، وكذلك الأزمة الموجودة في الفكر ومخاوف البعض من قضايا ومسائل التجديد في الدين والفكر، وما يتبع ذلك من مظاهر وصراعات وتيارات مختلفة سياسية أو فكرية أو طائفية أو ثقافية مثل العنف والتطرف والتعصب والتشدد ورفض الآخر، وعدم القبول بالتعددية الدينية أو العرقية أو الثقافية، وكذلك عدم إحاطة الدعاة بأساليب التكنولوجيا الحديثة ودورها المهم في توصيل الرسالة ومدى تأثيرها على الأفراد والمجتمعات، كلها أمور وإشكالات تجعل الخطاب الديني بعيدا عن متطلبات وقضايا الواقع المعاصر، الأمر الذي يعمل على تشتيت فكر الأفراد المستقبلين للخطاب ونفورهم منه، وعدم التفكير والإبداع، كما أن هذه الإشكالات تقف حجر عثرة أمام الخطاب الديني في مخاطبته للآخر ونشر القيم الدينية الإنسانية السامية مثل العيش المشترك والتسامح بين الأديان واحترام وقبول الآخر والتحاور معه.
متطلبات وتحديات الواقع العربي والعالمي المعاصر، تفرض على الخطاب الديني صياغة جديدة متجددة تكون مرآة حقيقية، تعكس التطورات والمستجدات والتغيرات الحادثة، وتساهم في تنمية الأفراد والمجتمعات.
ومن بين الجوانب المهمة التي يجب على الخطاب الديني الاهتمام والأخذ بها لمواجهة تحديات ومتطلبات الواقع: أن يربط الخطاب الديني نصوص ومبادئ العقيدة الدينية بواقع الحياة المعاصرة، وبأسلوب وتعبير وفهم واستيعاب متجدد دائما، وأن يكون خطابا شاملا متكاملا منفتحا يعزز الحوار بين الأديان والثقافات العالمية ويبرز القواسم المشتركة بينها، مع عدم مخالفته لجوهر وثوابت وأصول الدين والعقيدة، أو نسيانه أو تجاهله لقضايا الأفراد والمجتمعات، خطاب يبعث على التفاؤل والأمل في نفوس الأفراد، لا على التشاؤم واليأس، وينهض ويشجع على الفكر والإبداع، لا على الجمود والانغلاق، خطاب يحافظ على هوية الأفراد الدينية والثقافية ويعزز من انتماء الأفراد للأوطان وتماسك المجتمعات، ويؤكد على القيم والمفاهيم الإنسانية التي ترقى بالفرد والمجتمع وتعد بالغة الأهمية في عصرنا الحاضر مثل الإخاء والمودة والإيثار والتعاون والعدل والمساواة، خطاب يبرز إنجازات وإيجابيات وأمجاد الحضارة العربية ويستلهم منها الدروس والعبر للتشجيع على التقدم العلمي والتكنولوجي والحضاري ودوره الفعال في رقي وتطور المجتمعات واستشراف آفاق المستقبل.
خلاصة القول، أن قضية الخطاب الديني وتجديده، تبعا لاختلاف الأزمنة والأمكنة، تعد من القضايا بالغة الأهمية، التي ينبغي أن تستدعي وتشغل دائما كل المهتمين بقضايا الفكر الديني المعاصر، وبخاصة في ضوء متطلبات وتحديات العصر في الحاضر والمستقبل.
0 التعليقات :
إرسال تعليق