أمجد ناصر
كلمة 'فتنة'، بحد ذاتها، مثيرة للقراءة بما تحمل من معان ودلالات عديدة تبدأ بمعنى 'الحرق' لتمييز معدن عن معدن وتنتهي بالفضيحة والبلاء، مروراً بالتوّله حبَّاً حتى زوغان العقل. فالفتنة، لغوياً، تعني: الابتلاء والامتحان والاختبار.
وأصلها مأخوذٌ من القول: فَتَنْتُ الفضَّةَ والذهبَ'، أي أذبتهما بالنار لتمييز
الرديء من الجيد، لذلك سُميَّ الصائغ، قديماً، الفَتَّان.
كما تعني 'الفتنة' الضلال والاثم وما يقع بين الناس من خلاف يؤدي إلى فرقة واقتتال، وعندما تقرن بالمرأة تعني التوّله والتعلق. فـ 'المفتون' (أو المفتونة بالطبع) ينصرف عن أيِّ أمر آخر سوى ما سبب أوقعه في الافتتان. وقد لا تعرف النساء والفتيات العربيات اللواتي يحملن اسم 'فاتن' أنَّه أحد أسماء الشيطان!
فالفتنة تزيغ العقل. تُخلُّ بالتوازن. تُحيدُ عن الصواب وكل ما يزيغ العقل
والرشد ويخلُّ بالتوازن ويُحيدُ عن الصواب ينســـبه الموروث الديني والشعبي إلى الشيطان! الجمال قد 'يَفْتن'، أيضاً، رغم أن هناك حديثــــاً يقول: إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال. بعض المفسرين رأى في الجمال الذي قصده الحديث الثياب والطيب وحُسن الهيئة. تفسير كهذا لا يستقيم، في رأيي المتواضع، مع جمال الله الذي لا بدَّ أن يكـــون أكثر جوهرية من ذلك.. وهذه، في كل حال، مجرد حاشية سريعة على المتن.
' ' '
من بين المعاني العديدة لكلمة 'فتنة' استقر، على لساننا، معنى الفُرقة والتحزّب الأعمى لرأي دون آخر وتحريك جمار العصبيات الدينية والقبلية والجهوية التي يفترض أن نصف قرن من عمر 'الدولة الوطنية' قد جعلها أثراً من بعد عين. لكن 'الدولة الوطنية' العربية التي جاءت بعد خروج المستعمر الأجنبي لم تفعل ذلك.
فقد وسم العسكر ما يسمى بـ 'الدولة الوطنية العربية' بميسمهم. طبعوها بطابعهم.
وطابعهم يحمل، من بين ما يحمل، أثر القبيلة والجهة، فضلاً، عن مسلك الثكنة وثقافتها.
هكذا وجدت الانتفاضات العربية نفسها أمام مخايل الفتنة وأشباحها. لم تكن الفتنة مجرد فزَّاعة جوفاء يرفعها النظام العربي، في هزيع 'الدولة الوطنية'، بل فيها، للأسف، من الحقيقيِّ ما لا يقلُّ عن الوهميِّ. الحقيقيُّ فيها ربَّاه النظام ورعاه ليخيف شطراً من الشعب من شطر آخر، ليجعل شطراً ينظر، في ريبة وحذر، من شطر آخر. 'ورغم صدور معظم النظم العربية من مراجع 'مدنية' للدولة إلا أن هذه 'المدنية' لم تكن سوى غطاء هشٍّ لما هو عكسها. فقد استخدمت النظم العربية الدينيّ والطائفيّ والقبليّ والجهويّ عندما وجدت أن بعضاً من هذه العناصر يكفل لها البقاء والاستمرار في الحكم وحاربته عندما لم يعد يخدم أهدافها. فمثلاً،
عندما كان اليسار القومي والماركسي سمة مرحلة معينة (الخمسينات والستينات وصولا الى منتصف السبيعنات) رعت نظم عربية القوى الدينية ومكنتها من الجوامع والمنتديات وسمحت لها بالعمل، في الوسط الاجتماعي، بحرية في 'مواجهة قوى اليسار. حاربت اليسار أمنياً من خلال أجهزتها، واجتماعياً 'عبر القوى الدينية المتحالفة معها 'تحت الطاولة'. هكذا وجدت القوى الدينية لنفسها، في مرحلة سابقة، مدخلا سهلا، رسمياً إلى حد كبير، الى الشارع فيما طوردت القوى اليسارية والقومية 'داراً داراً زنقة زنقة' على 'حد تعبير الديكتاتور الطريد معمر القذافي.ثم انقلبت الآية لاحقا حيث 'تحالفت' هذه النظم مع القوى اليسارية المدجنة والمجموعات 'الليبرالية' (بما في ذلك شرائح من المثقفين) ضد القوى الاسلامية!
الامر الذي يظهر الاستعداد غير المتناهي 'لهــذه النظم العربية لفعل اي شيء في سبيل بقـــائها الذي تدرج من الشعار الاستقلالي والوطني والقومي الى الطابع العائلي العاري .
' ' '
لاحظنا ان كل نظام عربي يواجه رياح التغيير قد لجأ الى ما تحتكره الدولة من أدوات القوة وأجاز لنفســه حق استخدامها بسهولة. الدولة، والحال، لا تبدو دولة المواطنين بل دولة النظام. دولة الرئيس او الملك او الأمير او الطبقة الحاكمة.
وهذا نقض صارخ للعقد الاجتماعي المبرم، نصا أو ضمناً، 'بين الدولة وبين المجتمع. إن احتكار ادوات القوة بيد الدولة لم يكن، في العقد الاجتماعي السويّ، سوى ثمرة تنازل من طرف المجتــــع لـ'ادارة' الصـراعات وضبطها. وهذا ما تنساه الدولة العربية التي لم تعد دولة المواطنين.
إن خروج الدولة عن هذا التعاقد يفضي، بالضرورة، الى خروج الطرف الآخر من المعادلة، الأمر الذي يؤدي الى مواجهة القوة بالقوة والسلاح بالسلاح، غير ان الشارع العربي برهن على احساس بالمسؤولية الوطنية اعلى مما تتحلى به دولة الاستبداد.
لكن اخطر ما لجأت اليه الدولة العربية المستبدة التي تواجه استحقاق الزوال
المتأخر هو الفتنة التي بدأت به كلامي هذا من استنفار للعصبيات وبعث للمخاوف المشروعة او المختلقة في خصوص ابسط الحقوق واكثرها قدسية: حق الحياة. هكذا وجدنا اشكالا من الفتنة تسعى في البلدان العربية التي تواجه هبوب التغيير، بدءا بالديني والطائفي وانتهاء بالقبلي والمناطقي.
' ' '
في دولة المواطنة التي ينادي بها الحــــراك الشعبـــي العربي اليوم لن يكون هناك وجود حقــــيقي لمثل هـــــذه الانقسامات الحقيقية او المفتعلة. لن يكون هناك، على ما نأمل، سبب لتخوف فئة من اخرى، فمعيار المواطنة يكفي لانهاء هذه الانقسامات والصدوع التي تعشش فيها أشباح المخاوف .
وأصلها مأخوذٌ من القول: فَتَنْتُ الفضَّةَ والذهبَ'، أي أذبتهما بالنار لتمييز
الرديء من الجيد، لذلك سُميَّ الصائغ، قديماً، الفَتَّان.
كما تعني 'الفتنة' الضلال والاثم وما يقع بين الناس من خلاف يؤدي إلى فرقة واقتتال، وعندما تقرن بالمرأة تعني التوّله والتعلق. فـ 'المفتون' (أو المفتونة بالطبع) ينصرف عن أيِّ أمر آخر سوى ما سبب أوقعه في الافتتان. وقد لا تعرف النساء والفتيات العربيات اللواتي يحملن اسم 'فاتن' أنَّه أحد أسماء الشيطان!
فالفتنة تزيغ العقل. تُخلُّ بالتوازن. تُحيدُ عن الصواب وكل ما يزيغ العقل
والرشد ويخلُّ بالتوازن ويُحيدُ عن الصواب ينســـبه الموروث الديني والشعبي إلى الشيطان! الجمال قد 'يَفْتن'، أيضاً، رغم أن هناك حديثــــاً يقول: إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال. بعض المفسرين رأى في الجمال الذي قصده الحديث الثياب والطيب وحُسن الهيئة. تفسير كهذا لا يستقيم، في رأيي المتواضع، مع جمال الله الذي لا بدَّ أن يكـــون أكثر جوهرية من ذلك.. وهذه، في كل حال، مجرد حاشية سريعة على المتن.
' ' '
من بين المعاني العديدة لكلمة 'فتنة' استقر، على لساننا، معنى الفُرقة والتحزّب الأعمى لرأي دون آخر وتحريك جمار العصبيات الدينية والقبلية والجهوية التي يفترض أن نصف قرن من عمر 'الدولة الوطنية' قد جعلها أثراً من بعد عين. لكن 'الدولة الوطنية' العربية التي جاءت بعد خروج المستعمر الأجنبي لم تفعل ذلك.
فقد وسم العسكر ما يسمى بـ 'الدولة الوطنية العربية' بميسمهم. طبعوها بطابعهم.
وطابعهم يحمل، من بين ما يحمل، أثر القبيلة والجهة، فضلاً، عن مسلك الثكنة وثقافتها.
هكذا وجدت الانتفاضات العربية نفسها أمام مخايل الفتنة وأشباحها. لم تكن الفتنة مجرد فزَّاعة جوفاء يرفعها النظام العربي، في هزيع 'الدولة الوطنية'، بل فيها، للأسف، من الحقيقيِّ ما لا يقلُّ عن الوهميِّ. الحقيقيُّ فيها ربَّاه النظام ورعاه ليخيف شطراً من الشعب من شطر آخر، ليجعل شطراً ينظر، في ريبة وحذر، من شطر آخر. 'ورغم صدور معظم النظم العربية من مراجع 'مدنية' للدولة إلا أن هذه 'المدنية' لم تكن سوى غطاء هشٍّ لما هو عكسها. فقد استخدمت النظم العربية الدينيّ والطائفيّ والقبليّ والجهويّ عندما وجدت أن بعضاً من هذه العناصر يكفل لها البقاء والاستمرار في الحكم وحاربته عندما لم يعد يخدم أهدافها. فمثلاً،
عندما كان اليسار القومي والماركسي سمة مرحلة معينة (الخمسينات والستينات وصولا الى منتصف السبيعنات) رعت نظم عربية القوى الدينية ومكنتها من الجوامع والمنتديات وسمحت لها بالعمل، في الوسط الاجتماعي، بحرية في 'مواجهة قوى اليسار. حاربت اليسار أمنياً من خلال أجهزتها، واجتماعياً 'عبر القوى الدينية المتحالفة معها 'تحت الطاولة'. هكذا وجدت القوى الدينية لنفسها، في مرحلة سابقة، مدخلا سهلا، رسمياً إلى حد كبير، الى الشارع فيما طوردت القوى اليسارية والقومية 'داراً داراً زنقة زنقة' على 'حد تعبير الديكتاتور الطريد معمر القذافي.ثم انقلبت الآية لاحقا حيث 'تحالفت' هذه النظم مع القوى اليسارية المدجنة والمجموعات 'الليبرالية' (بما في ذلك شرائح من المثقفين) ضد القوى الاسلامية!
الامر الذي يظهر الاستعداد غير المتناهي 'لهــذه النظم العربية لفعل اي شيء في سبيل بقـــائها الذي تدرج من الشعار الاستقلالي والوطني والقومي الى الطابع العائلي العاري .
' ' '
لاحظنا ان كل نظام عربي يواجه رياح التغيير قد لجأ الى ما تحتكره الدولة من أدوات القوة وأجاز لنفســه حق استخدامها بسهولة. الدولة، والحال، لا تبدو دولة المواطنين بل دولة النظام. دولة الرئيس او الملك او الأمير او الطبقة الحاكمة.
وهذا نقض صارخ للعقد الاجتماعي المبرم، نصا أو ضمناً، 'بين الدولة وبين المجتمع. إن احتكار ادوات القوة بيد الدولة لم يكن، في العقد الاجتماعي السويّ، سوى ثمرة تنازل من طرف المجتــــع لـ'ادارة' الصـراعات وضبطها. وهذا ما تنساه الدولة العربية التي لم تعد دولة المواطنين.
إن خروج الدولة عن هذا التعاقد يفضي، بالضرورة، الى خروج الطرف الآخر من المعادلة، الأمر الذي يؤدي الى مواجهة القوة بالقوة والسلاح بالسلاح، غير ان الشارع العربي برهن على احساس بالمسؤولية الوطنية اعلى مما تتحلى به دولة الاستبداد.
لكن اخطر ما لجأت اليه الدولة العربية المستبدة التي تواجه استحقاق الزوال
المتأخر هو الفتنة التي بدأت به كلامي هذا من استنفار للعصبيات وبعث للمخاوف المشروعة او المختلقة في خصوص ابسط الحقوق واكثرها قدسية: حق الحياة. هكذا وجدنا اشكالا من الفتنة تسعى في البلدان العربية التي تواجه هبوب التغيير، بدءا بالديني والطائفي وانتهاء بالقبلي والمناطقي.
' ' '
في دولة المواطنة التي ينادي بها الحــــراك الشعبـــي العربي اليوم لن يكون هناك وجود حقــــيقي لمثل هـــــذه الانقسامات الحقيقية او المفتعلة. لن يكون هناك، على ما نأمل، سبب لتخوف فئة من اخرى، فمعيار المواطنة يكفي لانهاء هذه الانقسامات والصدوع التي تعشش فيها أشباح المخاوف .
0 التعليقات :
إرسال تعليق