كتاب السلام في زمن الخطر - فرصتنا الأخيرة (1) : الملك عبد الله الثاني: قوى الشد العكسي كثيرة وترى في الإصلاح خطرا على مصالحها الخاصة
«الشرق الأوسط» تنشر حلقات من كتاب العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني * ليس بمقدورنا أن نتحمل وجود هذا العدد من الشباب العاطل عن العمل وعلينا أن نتيح للنساء أن يضطلعن بدور أكبر في دورتنا الاقتصادية
| ||
| ||
|
تبدأ «الشرق الأوسط» اعتبارا من اليوم نشر حلقات من فصول كتاب العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني (فرصتنا الأخيرة.. السعي نحو السلام في زمن خطر) والتي حصلت على حقوق نشرها بالعربية من الكتاب الذي يصدر باللغتين الإنجليزية والعربية عن «دار الساقي». وهو كتاب مليء بالمعلومات عن مسيرة الملك عبد الله الثاني من الطفولة وفترة الدراسة ومصاحبته لوالده الراحل الملك حسين، حتى توليه العرش في زمن صعب ومنطقة مليئة بالأحداث الملتهبة. * تمهيد للطبعة العربية
* في هذا الكتاب، الذي وضع أساسا باللغة الإنجليزية، ويصدر - بالإضافة إلى الإنجليزية والعربية - في ثماني لغات أخرى، تتوجه كلمتي بالدرجة الأولى إلى القطاع الأوسع من الرأي العام العالمي؛ في محاولة لسد بعض الفراغ الكبير في أوساط هذا الرأي العام، على الصعيدين المعرفي والمعلوماتي، حيال عالمينا العربي والإسلامي. وما أسميه فراغا هنا هو، في واقع الأمر، نقص ذو وجهين: ففي حين نتعاطى، نحن المشرقيين عموما، باستخفاف مع الصورة التي يرانا فيها الرأي العام العالمي - والغربي على وجه الخصوص - نجد من ناحية أخرى أن هذه الصورة متروكة لوحة بيضاء فارغة يملأها عنا الآخرون، من غير العرب والمسلمين، بما شاءت لهم أهواؤهم، وإذا هي ليست خالية من جوهر تاريخنا، وتراثنا، وثقافتنا، وهويتنا، وقيمنا، وقضايانا العربية والإسلامية فحسب، وإنما مثقلة أيضا بما قد يشوه كل هذه القيم وهذا الثراء العربي والإسلامي، ويقلب حقائقه، ويزرع مكانها في أحيان كثيرة وجها من التخلف والإرهاب رابطا ما بينهما وبين العرب والمسلمين.
إنني أعلم علم اليقين أن الرأي العام العالمي، بكثرته الساحقة، إذا كان يرى صورة مشوهة للعرب والمسلمين فلأن العرب والمسلمين غائبون، بينما من يريد بهم شرا يملأ الفراغ بما يخدم أهواءه وغاياته. ولكن متى استفاق العرب والمسلمون واحتلوا موقعهم على مسرح الحدث، وواكبوا العصر بوسيلته العظمى، بالصورة والصوت والكلمة، صوبوا نظرة هذا الشطر الأكبر من الرأي العام العالمي، وقوّموا الاعوجاج، وكشفوا الوجه الحقيقي المشرق لقيم الإسلام وتراث العرب الحضاري والثقافي. عندئذ، وعندئذ فقط، تصبح القلة التي تتعمد تشويه الصورة خدمةً لغاياتها ومصالحها غير ذات تأثير فاعل في مجرى الأحداث.
إن الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي ما فتئ يتأجج منذ عقود طويلة، هو البركان الذي كلما استفاق لم يرسل حممه إلى جواره وحسب، بل إلى خارج حدود المنطقة أيضا. وإن كان عالمنا العربي والإسلامي يعيش مجموعة من المشكلات المعقدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية، فإن أخطر هذه المشكلات، وأشدها تدميرا للبشر والحجر على السواء، هي دون ريب مشكلة الصراع العربي - الإسرائيلي. إن منطقة الشرق الأوسط لن تشهد أمنا ولا استقرارا ولا سلاما، وهي بالتالي لن تشهد نموا حقيقيا ولا لحاقا بركب التطور الإنساني والحضاري، ما لم تشهد أولا الحل المنشود لهذا الصراع، على أسس تضمن إنصاف الشعب الفلسطيني، وإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية، وفي إطار إقليمي يضمن السلام الشامل، القائم على أساس استعادة جميع الحقوق العربية. ولذلك لا بد من التأكيد أنه ما من أولوية أخرى سوى هذا الحل الشامل يمكن أن تفتح الباب واسعا للبدء بالتعاطي مع ما تواجهه المنطقة من مشكلات أخرى، والمباشرة بمعالجتها واحدة تلو الأخرى.
إن المجتمعات العربية، بغالبيتها العظمى، مجتمعات يغلب عليها عنصر الشباب. وتمثل هذه الحقيقة فرصة ثمينة وتحديا حساسا في آن معا. لا حاجة بنا إلى الاسترسال في تعداد الإيجابيات التي تتيحها هذه الفرصة؛ فهي زاخرة بالوعود والآمال الكبرى. أما التحدي فيتمثل في الحاجة الماسة إلى تعميم التعليم ورفع مستوى مناهجه، وتأهيل القوى العاملة والارتفاع بقدراتها المهنية والتقنية، وبالتالي توفير فرص العمل وتأمين الخدمات الصحية، وحسن الربط بين مناهج التعليم وتطوير المهارات التقنية من جهة، وحاجات سوق العمل من جهة ثانية، خصوصا متى أخذنا بالاعتبار أن هناك حاجة لإيجاد مائتي مليون فرصة عمل على مدى السنوات القليلة الآتية.
بلوغا إلى هذه الأهداف المرتجاة لا بد من العمل الجاد والفوري على بناء بيئة سياسية، اجتماعية، ثقافية، واقتصادية منفتحة، في مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة والاحترام الكامل لحقوق الإنسان، وتطبيق مندرجاتها خصوصا على صعيد الحريات العامة، وذلك وصولا إلى تطوير الفكر النقدي المبدع والمتحرر من القيود. كل هذا لن يكون إلا بإطلاق ورشة إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبرى، تؤدي بمسارها المتواصل والمصمم إلى تطوير نحو الديمقراطية الحقيقية التي يشعر معها الشباب العربي بالأمل الواعد، وبالقدرة على تحقيق ذاته والمساهمة الفاعلة في صناعة القرار، وفي بناء مستقبله ومستقبل بلاده وأمته. وتلك مهمة ليست سهلة. فقوى الشد العكسي كثيرة، وترى في الإصلاح خطرا على مصالحها الخاصة فتقاومه بلا هوادة. فلقد كنا في الأردن أعلنا الإصلاح ضرورة حتمية، ومهدنا الطريق للمضي به خطوات جادة وملموسة، تثمر إصلاحات سياسية لن ينجح من دونها الإصلاح الاقتصادي، الذي يشكل أولوية لانعكاسه المباشر على مستوى معيشة المواطنين. إلا أن المسيرة الإصلاحية، التحديثية، التطويرية تعثرت وتباطأت، فكانت ما إن تسير خطوتين إلى الأمام حتى تتراجع خطوة إلى الخلف؛ نتيجة مقاومة القوى المتمسكة بالراهن، حرصا منها على مصالحها الخاصة، حتى لو جاءت على حساب المصلحة العامة. من هنا تبرز الحاجة لتلاقي القوى الإصلاحية على طرح إصلاحي برامجي، يحيّد في ثباته وتصميمه القوى التي تصر على العيش في الماضي، وترفض أن ترى متطلبات العصر وشروط النجاح فيه.
ليست الساعة يوما، ولا اليوم أسبوعا، ولا الشهر عاما ولا عقدا من الأعوام. لم يعرف التاريخ البشري حقبة زمنية كان فيها الوقت أغلى منه في زمننا هذا. وإذا كان لي أن ألقي بين أيدي شبابنا وشاباتنا في العالم العربي تمنيا هو الأغلى والأكثر إلحاحا ما ترددت في القول: لا تهدروا من عمركم المنتج ساعة ولا يوما ولا أسبوعا. إن بلادكم وأمتكم بحاجة إلى عقولكم وسواعدكم تعمل لا تكل في مواكبة ركب التطور الإنساني، ليس فقط للحاق به، بل للمنافسة في كل مجالات الإبداع والتطور: في الإصلاح السياسي الحقيقي، والعدالة والمساواة، والمشاركة واحترام التعددية، وتعزيز العمل المؤسساتي، وإدارة الحاضر بأدواته لا بأدوات الماضي، والثقة بثراء تراثنا الثقافي وبقيمنا الإسلامية، والتوجه بهذا الثراء وهذه القيم نحو الحداثة الحقيقية متجاوزين أساليب الرفض والسلبية.
فلنطمح، ولنحلم، ولنستهدف الأفضل اليوم، والأفضل منه غدا، واثقين بعقلنا وبقدرتنا على الإنجاز. إن الإيجابية بحد ذاتها هي ثقافة غزيرة العطاء، فلنجعل منها ركيزة ونهجا في حياتنا. أما السلبية والخوف من التغيير والتردد أمام الطموحات الكبيرة فهي عوائق تبقينا أسرى آفاق ضيقة، وتحرم مجتمعاتنا من فرص المضي بقدراتها وطاقاتها إلى رحابها الواسعة. وإن تجاوز هذه السلبية التي تتمترس خلف «لا نستطيع، لا نقدر، وليس ممكنا» أمام كل طموح كبير أو فكرة رائدة، شرط للانتصار على التحديات وبناء الغد الذي تستحقه شعوبنا. بهذه الروح أتوجه إلى قرائي، وأخص من بينهم الجيل الشاب، وأقول لهم: ما من مستحيل أمام العقل والإرادة متى اجتمعا! أما على الصعيد الإقليمي والعربي، فالأمل قائم على بناء المزيد من آليات التعاون عبر المؤسسات. فهذا التعاون هو الذي يحقق التكامل بين الدول العربية ويوسع إطار المشاركة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويفتح مجال الربط بين بلدان الإقليم بشبكات الطاقة والمياه والنقل بحيث تكتمل دائرة التعاون وتزداد العروة الوثقى وثوقا.
إننا قادرون على بناء المستقبل الذي يستحقه أبناؤنا، وإننا لمصممون على ذلك بإذن العلي القدير ومشيئته.
وإنني إذ أتوجه بكتابي هذا أيضا إلى أبناء أسرتي الأردنية الواحدة، وإلى المواطن العربي حيثما كان، وأضع أمامهم ما وضعت أمام القارئ الأجنبي من أفكار وطروحات حول قضايانا العربية والإسلامية، وحول تجربتي في خدمة شعبي الأردني الذي يمثل تحقيق الأفضل له أسمى ما أسعى إليه، لآمل أن أكون قد أسهمت في إبراز الصورة الحقيقية لحضارتنا وإرثنا العربي والإسلامي. وعلى الرغم من كل التحديات، فإنني لن أكون إلا متفائلا بمستقبل أمتنا العربية والإسلامية، وقدرتها على بناء المستقبل الذي يليق بتاريخها، ويحقق لها المكانة المتقدمة بين الشعوب. وهذا أمل أجده يتجدد ويزداد قوة كلما استمعت إلى شاب أردني يتحدث بثقة وحماسة عن طموحات لا تقبل أن تحاصرها محددات الراهن، وإصرار على النهل من إمكانيات عصر تفوق فرصه كل تحدياته.
مقـدمـة عندما بدأت، منذ عامين، تحرير هذا الكتاب كنت آمل أن أروي فيه كيف تمكنت الولايات المتحدة وإسرائيل والعالمان العربي والإسلامي، وسط تراكم العوائق والمصاعب، من تحقيق السلام في الشرق الأوسط. وفيما أنا أخط هذه الكلمات لا يسعني سوى القول إن ما أرويه هنا هو قصة هذا السلام المنشود الذي لا ينفك يراوغنا ونحن لا ننفك مصممين على تحقيقه؛ ذلك أننا في هذه المنطقة من العالم، حيث منسوب التفاؤل أكثر انخفاضا من منسوب المياه، لا يسعنا أن نفقد الأمل.
لماذا، يا تُرى، يمكن أن يختار رئيس دولة أن يكتب كتابا؟ ما أكثر الأسباب التي قد تجعل أمرا كهذا يفتقر إلى الروية والحكمة، ذلك أن إدارة شؤون الدولة، حتى الدولة الصغيرة، هي عمل لا يبقي لصاحبه متسعا من الوقت، أضف إلى ذلك ضرورة الحفاظ على العلاقات الطيبة مع دول في الجوار وخارجه، قد يشعر العديد منها بالإساءة جراء عرض الحقائق بصدق كما تراها دولة أخرى. ولا ننسى أولئك الذين يودون إما أن تبقى أعمالهم وتصرفاتهم طي الكتمان، وإما أن يكال لها من الإطراء والمديح ما لا تستحقه.
لقد قررت أن أدع جانبا كل هذه الاعتبارات وأن أسير على بركة الله في كتابة هذا الكتاب؛ لأن الشرق الأوسط، هذه المنطقة ذات المراس الصعب والمعقد التي أعيش فيها، تواجه أزمة مفصلية دون ريب. في اعتقادي أننا لا نزال نمتلك فرصة أخيرة لتحقيق السلام، لكن الفسحة الواعدة بهذا السلام تضيق بوتيرة متسارعة. وإذا لم نسارع إلى اغتنام هذه الفرصة التي يتيحها الآن شبه الإجماع الدولي على الحل، فإنني على يقين من أننا سنواجه حربا أخرى في منطقتنا ستكون على الأرجح أسوأ مما شهدناه من الحروب، وستحمل معها تداعيات أشد كارثية.
إن ذاكرة شعوب المنطقة تمتد بها إلى سنوات طويلة، وهي لا تنسى المحاولات التي بذلت لجمع أفرقاء الصراع والتي باءت جميعا بالفشل. لا يزال عدد كبير من اللاعبين أنفسهم يتحرك على مسرح الأحداث، ويبدو أن منهم من سيبقى في قلب الحدث إلى سنوات آتية، وهذا ما قد يكون سببا وجيها يحول دون التكلم علنا على المسائل الحساسة. أما أنا فعلى يقين من أن العالم يجب أن يعرف المخاطر التي ينطوي عليها جلوسنا مكتوفي الأيدي حيال هذه المخاطر.
لقد عانى جيل والدي صدمة الحرب بمعدل مرة كل عشر سنوات، فبعد الحرب التي أشعلها إنشاء إسرائيل في العام 1948 وقعت حرب السويس في العام 1956، لتأتي بعدها الحرب الكارثية في العام 1967 التي استولت خلالها إسرائيل على الضفة الغربية وسيناء ومرتفعات الجولان، ثم وقعت حرب العام 1973 التي حاولت خلالها مصر وسورية استعادة الأراضي التي خسرتاها في العام 1967 ولكن المحاولة فشلت. بعد كل هذه الحروب وقعت الحرب بين إيران والعراق ليتبعها الغزو الإسرائيلي للبنان في أوائل ثمانينات القرن الماضي، ومن ثم حرب الخليج في العام 1991. إن الفترات الفاصلة بين حرب وأخرى يمكن اعتبارها فسحة للسلام ولكن بالحد الأدنى من مفهوم السلام الحقيقي، ففي السنوات الإحدى عشرة التي مضت منذ أن توليت مسؤوليتي ملكا للمملكة الأردنية الهاشمية شهدت خمسة نزاعات: انتفاضة الأقصى في العام 2000، الغزو الأميركي لأفغانستان في العام 2001، الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، ومن ثم العدوان الإسرائيلي على غزة في العام 2008 - 2009. وهكذا لا يمر عامان أو ثلاثة أعوام على ما يبدو دون أن تعاني منطقتنا المنهكة بالمتاعب نزاعا جديدا، وحين أنظر إلى الآتي القريب أراني في خوف كبير من أن نكون مقبلين على حرب جديدة بين إسرائيل وجيرانها تنطلق شرارتها من إحدى النقاط المشتعلة؛ ومن ثم تتسع وتتصعد بوتيرة مرعبة.
يعود الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الزمن إلى مطلع القرن العشرين، لكن هذا الصراع أشد وطأة في وقتنا الحاضر منه في أي وقت مضى. فمنذ انهيار عملية السلام في العام 2000 سقط ما يقارب ألف قتيل من الإسرائيليين، فيما سقط على أيدي القوات الإسرائيلية أكثر من ستة آلاف وخمسمائة فلسطيني، فضلا عن آلاف الجرحى. وها هو الشرق الأوسط بكل أرجائه يواجه اليوم تحديا خطيرا وحساسا حيال إيجاد الحل لهذا الصراع الذي يكاد يختصر التاريخ الحديث للمنطقة. ولكني أعتقد أننا إذا نجحنا في حل هذا الصراع، فسنكون قد عالجنا أحد أهم جذور العنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
حين ينظر الكثيرون من المعنيين في الغرب إلى منطقتنا يرونها أشبه بسلسلة من التحديات المنفصلة واحدها عن الآخر: فهناك التوسع الإيراني، والإرهاب الراديكالي المتطرف، والتوترات المذهبية في العراق ولبنان، وهناك الصراع المتمادي والمتزايد تعقيدا بين إسرائيل والفلسطينيين. لكن الحقيقة الساطعة هي أن كل هذه التحديات يتقاطع بعضها مع بعض، وأن الخيط الذي يربط في ما بينها هو الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
بالنسبة إلى المسلمين، يختلف الصراع العربي - الإسرائيلي نوعا وتعريفا عن أي نزاع آخر لهم به صلة. وخلافا لما يحلو للبعض أن يقول، ليس هذا الصراع في أساسه صراعا دينيا وإنما هو نزاع سياسي حول الحقوق والأرض. في العام 1900 كان على أرض فلسطين التاريخية تسعون ألفا من اليهود وخمسمائة وعشرة آلاف من العرب. وبعد مرور قرن من الزمن شهد دفقا من الهجرة اليهودية إلى فلسطين بات عدد اليهود الآن أكثر من ستة ملايين مقابل خمسة ملايين فقط من العرب. جاء عدد كبير من المهاجرين اليهود إلى فلسطين خلال فترة الاضطهاد النازي التي انتهت إلى واحدة من أكبر الفواجع في التاريخ الإنساني، وهي المحرقة (الهولوكوست). وهناك أعداد كبيرة طبعا جاءت في ما بعد عندما شرعت إسرائيل أبوابها أمام اليهود الآتين من نواحي الأرض الأربع، وبنتيجة حرب العام 1948 هُجّر مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين لم يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم. أما حرب العام 1967 فقد وضعت عددا كبيرا إضافيا - خصوصا الذين يعيشون في الضفة الغربية التي كانت جزءا من الأردن - تحت الاحتلال الإسرائيلي. ونتيجة لذلك، يعيش ملايين الفلسطينيين اليوم تحت هذا الاحتلال، فيما تشكل الممارسات الإسرائيلية تهديدا لهوية مدينة القدس. وتفسر أهمية القدس، على الأقل جزئيا، مدى مركزية المسألة الفلسطينية بالنسبة إلى العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم.
من الأمور التي لا يدركها الغرب كما يجب، كون القضية الفلسطينية مسألة عالمية. حين أذهب في زيارة إلى إندونيسيا أو الصين وألتقي المسلمين هناك يبادرونني إلى التحدث عن القدس، وعندما زرت نيودلهي في العام 2006 والتقيت جمعا من المسلمين الهنود طرحوا عليّ السؤال التالي: متى سيحل العرب المشكلة الإسرائيلية - الفلسطينية؟ وعندما يعدد الباكستانيون مصادر مظالمهم تأتي إسرائيل مباشرة بعد الهند، ومن هنا فإن المسألة الفلسطينية تمثل قضية يتردد صداها العميق بين مليار ونصف المليار من مسلمي الأرض.
هذه الحقيقة تفسر (دون أن تبرر طبعا) كيف تستطيع الجماعات الراديكالية المتطرفة، كتنظيم القاعدة مثلا التي تدعي أنها تريد «تحرير» القدس، التلاعب الاستغلالي بالقضية واستدراج الآخرين إلى ارتكاب أعمال إرهابية تحت ذريعة الدفاع عن الإسلام والفلسطينيين. كذلك تفسر هذه الحقيقة سبب لجوء منظمات كحزب الله وحماس - على الرغم من أنهما مختلفان جذريا عن «القاعدة» من حيث المهمة والآيديولوجية - إلى التسلح بوجه إسرائيل، فضلا عن أسباب استجابة الأعداد المتزايدة من العرب والمسلمين إلى نداء العمل المقاوم. هذا النداء إلى الكفاح المسلح ضد الاحتلال يحوز مزيدا من الصدقية والاستجابة كلما أصيبت جهود بلدان عربية، كالأردن ومصر والمملكة العربية السعودية، بالفشل في سعيها إلى الوصول إلى السلام من خلال المفاوضات.
لكن إذا استطاعت إسرائيل أن تنسج سلاما مع الفلسطينيين، فعندئذ إلى أي تبرير معنوي - أخلاقي يمكن أن تلجأ أي حكومة أو جماعة مقاومة بغية الاستمرار في الصراع؟ إذا كانت القدس مدينة مشتركة، والقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية قابلة للحياة، سيدة ومستقلة، فماذا يبقى من الأسباب المنطقية لدى حكومة إيران، على سبيل المثال؛ لكي تستمر في خطابها وأعمالها المضادة لإسرائيل؟
من أمضى الأسلحة بوجه دعاة العنف من المتطرفين القضاء على ما يصرخون به من شعارات جذابة. وسيسهم حل المشكلة الأشد تجذرا عاطفيا في وجدان العالم الإسلامي من خلال إقامة دولة فلسطينية على أساس حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، في إزالة واحد من أكبر أسباب الصراع في العالم الإسلامي. ما من شك في أن تحقيق السلام العادل والقابل للاستمرار هو أحد أنجع السبل ضد التطرف. صحيح أنه لن يردع كل متطرف ومتعصب، لكنه سيحول ميدان الحركة تحويلا أساسيا بالاتجاه الإيجابي. من هنا فإن هذا الحل يجب أن يكون أولوية أميركية بقدر كونه أولوية عربية.
هناك ناحية أخرى من الصراع غالبا ما يساء فهمها وهي وطأته الثقيلة على مسيحيي القدس وعلى الأماكن المقدسة في المدينة. قبل حرب العام 1967 كانت الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية تحت إدارة الأردن الذي لا يزال يتحمل مسؤولية رعاية الأماكن المقدسة في المدينة القديمة، المسيحية منها والإسلامية على حد سواء. من هنا فإن الأردن يبقى مدافعا صلبا عن حقوق المسيحيين والمسلمين عندما يحاول الإسرائيليون ترسيخ احتلالهم غير القانوني للقدس الشرقية من خلال بناء المزيد من المستوطنات. اليوم لم يبق في القدس سوى ثمانية آلاف من المسيحيين، وكان عدد هؤلاء في العام 1945 يقارب ثلاثين ألفا. وقد اجتمعت السياسات الإسرائيلية مع الضغط الاجتماعي والاقتصادي الناجم عنها لتجبر أكثرية المسيحيين على الهجرة. إن الأكثرية العظمى من مسيحيي القدس هم من العرب، وفيما ترحب إسرائيل بالأجانب من المسيحيين الذين يأتون إلى القدس زائرين، نراها تثقل حياة المقدسيين منهم بالمصاعب الجمة. وفي هذه السياسة مفارقة غريبة، ذلك أن المسيحيين العرب هم المجتمع المسيحي الأعرق في العالم والذي تعود جذوره في القدس إلى عهد السيد المسيح عليه السلام. لقد تساوى الفلسطينيون، من مسيحيين ومسلمين، في المعاناة من وطأة الاحتلال، وهم يحملون التطلعات ذاتها إلى ممارسة حقهم في الحرية والدولة المستقلة.
في الجهود التي بذلت سابقا لتحقيق السلام كانت المقاربة الغالبة لدى الأطراف المعنية جميعا التقدم خطوة خطوة، بحيث يجري تناول المسائل الصغيرة وتأجيل المسائل الصعبة والمعقدة، كالوضع النهائي للقدس، إلى أجل آت. المشكلة في هذه المقاربة هي أننا لن نصل إلى النهاية المتوخاة ما دمنا نؤجل المشكلات الكبرى، وعلينا أن نجد حلا فوريا لقضايا الوضع النهائي الرئيسة وهي: القدس، واللاجئون، والحدود، والأمن، وهذا المسار، في المرحلة الراهنة هو الأمل الوحيد لإنقاذ الحل القائم على مبدأ الدولتين. ما من خيار آخر.
لقد وجهت في عدة مناسبات انتقادات قاسية لتصرف إسرائيل وتعنتها. لكن لا بد من الإشارة أيضا إلى أن هناك مسؤولية مشتركة إزاء فشل عملية السلام. على العرب والإسرائيليين أن يعترف كل طرف منهما بحاجات الطرف الآخر. إن حل الدولتين مبني على اعتراف الإسرائيليين بحقوق الفلسطينيين بالحرية وبدولتهم المستقلة، وعلى اعتراف الفلسطينيين وسائر العالم الإسلامي بحق إسرائيل بالأمن. ليس لدينا خيار سوى العيش معا، والمسؤولية المعنوية حيال السعي إلى السلام تقع على الطرفين كليهما؛ ذلك أن البديل هو المزيد من الصراع والعنف.
إن الجغرافيا والتاريخ والقانون الدولي تفرض كلها على الأردن أن ينخرط في عملية البحث عن حل للصراع. فعدد اللاجئين الفلسطينيين الذين يقيمون في الأردن هو الأكبر، إذ يصل إلى مليون وتسعمائة ألف لاجئ، ولدينا علاقات صداقة مع جيران إسرائيل من البلدان العربية، ومثلها مع الولايات المتحدة الأميركية. كذلك نحن واحد من بلدين اثنين فقط من البلدان العربية تربطهما بإسرائيل معاهدة سلام.
إن مفتاح تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم الإسلامي بكامله هو في حل صراعها مع الفلسطينيين. وكان والدي قد صاغ في السنوات الأخيرة من عهده اقتراحا لتحقيق السلام الشامل بين إسرائيل والدول العربية الاثنتين والعشرين مقابل انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية. لكن مشروعه هذا لم يجد مساره نحو التحقيق وما لبث أن انتهى مع وفاته. عندما توليت مسؤولياتي ملكا أعدت طرح اقتراح والدي، وكلفت الحكومة بحثه مع مصر والمملكة العربية السعودية. بعد ذلك طورت السعودية الاقتراح ومضت به إلى الأمام وذلك عندما قدم ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود مبادرته للسلام إلى مؤتمر القمة العربية في بيروت في العام 2002. وتبنت القمة العربية الطرح السعودي الذي عرف في ما بعد بـ«المبادرة العربية».
دعت المبادرة العربية إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل من كل الأراضي العربية المحتلة منذ العام 1967، وإلى التفاوض على تسوية لمسألة اللاجئين الفلسطينيين، وإلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية. مقابل ذلك قالت الدول العربية الاثنتان والعشرون إنها ستعتبر «الصراع العربي - الإسرائيلي منتهيا، وستدخل في اتفاق سلام بينها وبين إسرائيل يحقق الأمن لجميع دول المنطقة». بالإضافة إلى ذلك أعلنت الدول العربية أنها ستقيم علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل. حيال هذا العرض أصابتني الدهشة من رفض إسرائيل، وحتى بعض أعضاء الإدارة الأميركية، هذه المبادرة بالمطلق. وتبين لي من خلال مباحثاتي في ما بعد مع العديد من هؤلاء أنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى قراءتها. حول مسألة اللاجئين، على سبيل المثال، اقترحت المبادرة العربية «التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194». والتعبير الأساس في هذه الجملة هو «يتفق عليه». وعندما ذكرت هذا الأمر للإسرائيليين أبدوا تعجبهم، حتى إن بعضهم اعترف بأنه لم يقرأ المبادرة. هذا العرض الذي لم يسبق أن طرح مثله من قبل وافقت عليه لاحقا الدول السبع والخمسون الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، لكن المؤسف أن إسرائيل لم تأخذ المبادرة قط على محمل الجد، كما لم تعترف بما حملته من فرصة غير مسبوقة. إننا لا نزال عالقين في حبكة السبل القديمة ونتفاوض حول المسائل الثانوية بينما نرجئ اتخاذ القرارات الصعبة. يبدو أن إسرائيل تشعر بأن لديها متسعا كبيرا من الوقت، لكن مماطلتها وتراجعاتها ومناوراتها التكتيكية كلفت كلها أثمانا باهظة.
لقد دمرت الأحداث التي شهدتها السنوات الإحدى عشرة الماضية الثقة بين الجهتين المعنيتين، وها نحن اليوم نرى صدقية عملية السلام وقد تلاشت كليا، وحين تنهار الثقة انهيارا كاملا بين الطرفين قد يصبح من المحال إعادة بنائها مجددا. على أصدقاء إسرائيل جميعا أن يشجعوها على الانخراط الكامل والسريع في عملية صنع السلام، أما الولايات المتحدة، الصديق القديم والمخلص لإسرائيل، فعليها ألا تتردد في دفع فريقي الصراع - بشيء من التشدد متى دعت الحاجة - إلى طاولة المفاوضات بغية الوصول إلى التسوية النهائية.
إن إرادة الإصغاء ومد اليد اللذين أبداهما الرئيس الأميركي باراك أوباما متوجها بهما إلى العالمين الإسلامي والعربي قد فتحا نافذة للأمل ولو محدودة، غير أن العرب والفلسطينيين، لا شك، محبطون حيال التقدم المحدود جدا الذي تم إحرازه. وقد واجه الرئيس أوباما الانتقاد عندما ضغط على رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو طالبا إليه تجميد بناء المستوطنات، وتضررت صورة أميركا ومكانتها نتيجة التعنت الإسرائيلي. لكن يبقى من الخطأ الفادح أن يتراجع أوباما عن هذا التوجه، فإذا تلكأت أميركا اليوم عن ممارسة قوتها المعنوية والسياسية لإيصال الطرفين إلى الحل المبني على قيام دولتين، فعندئذ قد لا تتاح أمامنا فرصة أخرى كهذه. نافذة الأمل تميل إلى الانغلاق، وإذا نحن تقاعسنا عن العمل السريع باتجاه الحل، فإن الأجيال المقبلة سوف تدين فشلنا في اغتنام هذه الفرصة الأخيرة لإنجاز السلام.
السلام بحد ذاته نعمة لا تقدر، لكن الفوائد التي أراها ناتجة من تحقيقه تتجاوز بقيمتها حتى هذه النعمة الثمينة. فلا شك في أن المنظمات الإرهابية تستغل المظالم التي يتسبب بها استمرار الاحتلال، ومن هنا فإن حل الصراع سيحرم تلك المنظمات من قدرتها على استقطاب الدعم والمؤيدين. كثيرون أولئك الذين يدعون أن الكراهية والحقد اللذين تبثهما الفئات المتطرفة على ضفتي الصراع في الأراضي المقدسة لا يمكن التغلب عليهما، لكن التاريخ قد أظهر أن السلام يمكن أن ينتصر حتى بين ألد الأعداء. في الأمس القريب ربما كان المراقبون يظنون أن التوتر القائم عبر جدار برلين أو بين الفئات المتنازعة في آيرلندا الشمالية لن يهدأ ولن يزول، وها نحن الآن لا نرى في تلك الصراعات سوى ذكريات عبرت. فلِمَ، والحال هذه، لا نطبق ذلك في الشرق الأوسط؟
ليس الإتيان بالسلام القضية الوحيدة التي نكافح من أجلها، فمن بين التحديات الكبرى التي نواجهها الإصلاحات السياسية وتحسين اقتصاداتنا. علينا أن نتعلم صنع السلع التي يمكن تسويقها في العالم، وكيف نرفع من مستويات العيش لدى شعوبنا عبر توفير التعليم الجيد وفرص العمل المنتج لشبابنا وشاباتنا، ومن خلال هذا النوع من الإنجازات نقيم خط الدفاع الأصلب في وجه صراخ المتطرفين. ليس بمقدورنا أن نتحمل وجود هذا العدد من الشباب العاطل عن العمل، وعلينا أن نتيح للنساء أن يضطلعن بدور أكبر في دورتنا الاقتصادية. إن ما يدفعنا إلى الحؤول دون قيام النساء بدورهن كاملا وإبقائهن خارج القوة العاملة، بذرائع دينية وثقافية، إنما ينبع من الشعور العميق بعدم الأمان والاطمئنان، ولكن ليس مقبولا أن ننكر على نصف المجتمع حقوقه وأن يبقى نصف القوى العاملة في المنزل مكتوف اليدين دون عمل منتج.
فلنفكر في عالم تضافرت فيه بفاعلية الخبرة الإدارية لدى الإسرائيليين، مع الكفاءة المهنية لدى الأردنيين، وريادة اللبنانيين، والمستويات العلمية لدى الفلسطينيين. إنني أرى في تضافر القوى بين هؤلاء الشركاء المحتملين نواة تجمع اقتصادي أشبه ما يكون بتجمع دول «بينيلوكس» بين بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ في الشرق الأوسط. كل هذا يمكن تحقيقه. لكن الأوضاع على الأرض تنزلق سريعا من بين أيدينا وتجعل الوصول إلى هذه الغاية احتمالا ضئيلا. وإذا لم تتوقف الممارسات الحالية، فلن تبقى هناك أرض لمقايضتها بالسلام، ولن يبقى هناك ما يدعو الفلسطينيين إلى المراهنة على القادة المعتدلين دون المتطرفين منهم. مستقبلنا، في هذه الحالة، سوف يصبح لقمة سائغة في أشداق الحروب والنزاعات.
هناك ميل في الحياة وفي السياسة إلى الخضوع للواقع الراهن. لكن لا يمكن فعل ذلك في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ لأن الاستقرار الظاهر ليس حقيقيا. فأنا أسمع وأشعر بالإحباط والغضب يتزايدان. وما أخشاه هو أن يحجبا في وقت قريب كل أحلام السلام والمصالحة. لا أحسب أكثرية الأميركيين والأوروبيين يدركون مدى خطورة الوضع. وهذه الخطورة هي ما دعاني إلى وضع هذا الكتاب. فلقد شهدت وتعلمت الكثير منذ خلفت والدي لإحدى عشرة سنة خلت. وأنا مصمم على مشاركة قرائي قصتي بكامل الانفتاح والصدق على أمل أن يحدث ذلك الفرق الذي أتوخاه.
في المنطقة التي أنتمي إليها نعيش التاريخ بحلوه ومره، وما قد يبدو عن بُعد أمرا مجردا وغير ملموس إنما هو جزء من نسيج حياتنا اليومية. لقد بات يقينا عندي أن أفضل السبل لرواية هذه القصة وأكثرها إقناعا هو أن أرويها من خلال قصة حياتي الشخصية - أي بإشراك قارئي في ما رأيت وما فعلت - إثباتا لكون الشخصي والسياسي غالبا ما يتحابكان وينتجان مزيجا جديدا.
لم يدر في ذهني يوما أنني سأشغل الموقع الذي عهد به إليّ والذي أشغله اليوم، وكنت أتوقع أن أمضي حياتي في الجيش. جزء من قصتي هو عن تلك الخبرة العسكرية وما علمتني إياه عن الأردن وعن شؤون القيادة بصورة عامة. لقد حاولت أن أروي قصتي ببساطة، مستخدما لغة الرجل العسكري المباشرة والتي تسمي الأمور بأسمائها، بدل تلك المطولات من الجمل والتعابير المحببة إلى قلوب السياسيين.
آمل في هذا الكتاب أن أبدد الأفكار الزائفة حول المنطقة التي أعيش فيها. ففي غالب الأحيان عندما يسمع الناس في الغرب كلمات مثل «عربي» أو «مسلم» أو «الشرق الأوسط» يتبادر إلى أذهانهم الإرهاب والانتحاريون والمتطرفون من ذوي العيون الجاحظة المختبئون في ظلمات الكهوف. أما أنا فأريدهم، متى ورد ذكر منطقتنا أمامهم، أن يتبادر إلى ذهنهم ما يشهده الأردن اليوم من مشاريع بملايين الدولارات في مجال تكنولوجيا المعلومات، وأن يفكروا بحائزي جوائز نوبل الأدبية في مصر، وأن لا تغيب عن ذهنهم روائع فنون العمارة في ربوع دمشق.
لعل من أخطر الأفكار التي برزت في السنوات الأخيرة الطرح القائل بأن الغرب والعالم الإسلامي هما كتلتان منفصلتان تتجهان بصورة حتمية إلى التصادم. هذا مفهوم لا يستند إلى معرفة صحيحة، وهو خاطئ ومثير للهواجس والغضب. طوال ما يزيد على ألف سنة عاش المسلمون واليهود والمسيحيون بسلام جنبا إلى جنب يغني أحدهم ثقافة الآخر وتراثه. ما من شك في أن نزاعات قد نشبت بين حين وآخر مثل الحملات الصليبية أو الاستعمار الأوروبي للعديد من بلدان الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى. لكن هذه كلها كانت نزاعات سياسية استمدت جذورها من فترات وأطر زمنية معينة ولم تكن مظهرا من مظاهر العداء الثقافي الأبدي.
بعد دراستي العسكرية في ساندهرست، خدمت على مدى سنة في الكتيبة 13/18 في قوات الهوسار (الخيالة) البريطانية وهي كتيبة ذات تاريخ عسكري حافل يعود إلى ما يقارب ستة عقود قبل معركة واترلو. كذلك شاركت هذه الكتيبة في حرب القرم في أواسط القرن التاسع عشر، وهي الحرب التي شهرتها قصيدة ألفرد تنيسون بعنوان «هجوم كتيبة البرق»، والتي خاضتها بريطانيا وفرنسا إلى جانب الإمبراطورية العثمانية لحمايتها من الغزو الروسي. في تلك الحقبة كان أكثر من نصف مواطني الإمبراطورية، البالغ عددهم آنذاك ثلاثين مليون نسمة، من المسيحيين، وكان عدد كبير منهم يخدم في الجيش العثماني، وقد حارب الجنود المسلمون بشجاعة على طرفي النزاع فكانوا في صفوف الجيش الفرنسي كما في صفوف الجيش الروسي. إن هذا الطرح الخبيث والمؤذي القائل بصدام الثقافات ينساب إلى الساحة السياسية الحديثة فيضخ القوة في عروق المتطرفين حيثما وجدوا ويشد من عزيمة أولئك الذين يودون تحريض الرجال والجيوش بعضهم على بعض الآخر. إذا حدث أن نفذ جزائري أو أفغاني أو أردني هجوما إرهابيا فمن المحتم أن يوصف في الغرب بأنه «إرهابي مسلم»، ولكن إذا ارتكب رجل آيرلندي أو سريلانكي هجوما مماثلا فهو نادرا ما يوصف بـ«الإرهابي المسيحي» أو «الإرهابي الهندوسي» وإنما يصنف بحسب دوافعه السياسية باعتباره «ناشطا في الجيش الجمهوري الآيرلندي» مثلا أو «انفصاليا من التاميل».
من الناس من ينظر إلى التاريخ من زاويته الضيقة فيفترض أن مسار الأمور كما نراه الآن هو نفسه كما كان في الأزمنة الغابرة. لكن علينا ألا ننسى أن التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الذي أحرزه الغرب هو تطور حديث نسبيا جاء نتيجة الحركة التحديثية المدهشة وما تبعها من ازدهار في أوروبا وأميركا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. أما من يلقي نظرة أبعد وأكثر عمقا فإن الأمور تبدو له مختلفة إلى حد كبير. ففي العصور الوسطى، يوم كانت واشنطن مجرد مستنقع لا أكثر، كانت مدن القدس وبغداد ودمشق العظيمة المراكز الريادية العالمية في مجالات التعلم والمعرفة. لكن مع مرور الزمن اتخذ التاريخ وجهة أخرى ومال نحو الغرب. وبحلول القرن العشرين كان العالم العربي قد تراجع إلى الصفوف الخلفية.
تنحدر عائلتي، الأسرة الهاشمية، من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وقد تولى أفراد منها مواقع القيادة والحكم في هذه المنطقة من العالم طوال أجيال وأجيال. في نحو القرن الخامس كان أحد أسلافي ويدعى قصي بن كلاب أول من تولى حكم مكة. وإرثي قائم على التسامح وقبول الثقافات والديانات المختلفة. يقول الله عز وجل في محكم تنزيله:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13).
لم أشعر يوما بأن التفاعل مع الثقافة الغربية يتم على حساب هويتي بوصفى عربيا أو مسلما، فأنا شخص ولد في الشرق وتلقى تعليمه في الغرب، أشعر بألفة عميقة حيال الثقافتين كلتيهما، ومن هنا أملي في أن يشكل هذا الكتاب، ولو بطريقة متواضعة، جسر تواصل بين هاتين الثقافتين. في معظم الأحيان يتولى المتطرفون وضع إطار البحث ويهيمنون على النقاش، وفي أغلب الأحيان تنحسر أصوات العرب المعتدلين وتغرق وسط صراخ الذين يرفعون الصوت أكثر. أما أنا فلن ألجأ إلى الصراخ، لكنني مصر على إسماع رسالتي أنّى تيسر لي ذلك. أريد أن أخبر العالم بأن منطقتنا تعاني مشكلات كبرى، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا هو أن أمامنا ما يدعو إلى الأمل.
* الكتاب يصدر عن «دار الساقي»
* في هذا الكتاب، الذي وضع أساسا باللغة الإنجليزية، ويصدر - بالإضافة إلى الإنجليزية والعربية - في ثماني لغات أخرى، تتوجه كلمتي بالدرجة الأولى إلى القطاع الأوسع من الرأي العام العالمي؛ في محاولة لسد بعض الفراغ الكبير في أوساط هذا الرأي العام، على الصعيدين المعرفي والمعلوماتي، حيال عالمينا العربي والإسلامي. وما أسميه فراغا هنا هو، في واقع الأمر، نقص ذو وجهين: ففي حين نتعاطى، نحن المشرقيين عموما، باستخفاف مع الصورة التي يرانا فيها الرأي العام العالمي - والغربي على وجه الخصوص - نجد من ناحية أخرى أن هذه الصورة متروكة لوحة بيضاء فارغة يملأها عنا الآخرون، من غير العرب والمسلمين، بما شاءت لهم أهواؤهم، وإذا هي ليست خالية من جوهر تاريخنا، وتراثنا، وثقافتنا، وهويتنا، وقيمنا، وقضايانا العربية والإسلامية فحسب، وإنما مثقلة أيضا بما قد يشوه كل هذه القيم وهذا الثراء العربي والإسلامي، ويقلب حقائقه، ويزرع مكانها في أحيان كثيرة وجها من التخلف والإرهاب رابطا ما بينهما وبين العرب والمسلمين.
إنني أعلم علم اليقين أن الرأي العام العالمي، بكثرته الساحقة، إذا كان يرى صورة مشوهة للعرب والمسلمين فلأن العرب والمسلمين غائبون، بينما من يريد بهم شرا يملأ الفراغ بما يخدم أهواءه وغاياته. ولكن متى استفاق العرب والمسلمون واحتلوا موقعهم على مسرح الحدث، وواكبوا العصر بوسيلته العظمى، بالصورة والصوت والكلمة، صوبوا نظرة هذا الشطر الأكبر من الرأي العام العالمي، وقوّموا الاعوجاج، وكشفوا الوجه الحقيقي المشرق لقيم الإسلام وتراث العرب الحضاري والثقافي. عندئذ، وعندئذ فقط، تصبح القلة التي تتعمد تشويه الصورة خدمةً لغاياتها ومصالحها غير ذات تأثير فاعل في مجرى الأحداث.
إن الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي ما فتئ يتأجج منذ عقود طويلة، هو البركان الذي كلما استفاق لم يرسل حممه إلى جواره وحسب، بل إلى خارج حدود المنطقة أيضا. وإن كان عالمنا العربي والإسلامي يعيش مجموعة من المشكلات المعقدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية، فإن أخطر هذه المشكلات، وأشدها تدميرا للبشر والحجر على السواء، هي دون ريب مشكلة الصراع العربي - الإسرائيلي. إن منطقة الشرق الأوسط لن تشهد أمنا ولا استقرارا ولا سلاما، وهي بالتالي لن تشهد نموا حقيقيا ولا لحاقا بركب التطور الإنساني والحضاري، ما لم تشهد أولا الحل المنشود لهذا الصراع، على أسس تضمن إنصاف الشعب الفلسطيني، وإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية، وفي إطار إقليمي يضمن السلام الشامل، القائم على أساس استعادة جميع الحقوق العربية. ولذلك لا بد من التأكيد أنه ما من أولوية أخرى سوى هذا الحل الشامل يمكن أن تفتح الباب واسعا للبدء بالتعاطي مع ما تواجهه المنطقة من مشكلات أخرى، والمباشرة بمعالجتها واحدة تلو الأخرى.
إن المجتمعات العربية، بغالبيتها العظمى، مجتمعات يغلب عليها عنصر الشباب. وتمثل هذه الحقيقة فرصة ثمينة وتحديا حساسا في آن معا. لا حاجة بنا إلى الاسترسال في تعداد الإيجابيات التي تتيحها هذه الفرصة؛ فهي زاخرة بالوعود والآمال الكبرى. أما التحدي فيتمثل في الحاجة الماسة إلى تعميم التعليم ورفع مستوى مناهجه، وتأهيل القوى العاملة والارتفاع بقدراتها المهنية والتقنية، وبالتالي توفير فرص العمل وتأمين الخدمات الصحية، وحسن الربط بين مناهج التعليم وتطوير المهارات التقنية من جهة، وحاجات سوق العمل من جهة ثانية، خصوصا متى أخذنا بالاعتبار أن هناك حاجة لإيجاد مائتي مليون فرصة عمل على مدى السنوات القليلة الآتية.
بلوغا إلى هذه الأهداف المرتجاة لا بد من العمل الجاد والفوري على بناء بيئة سياسية، اجتماعية، ثقافية، واقتصادية منفتحة، في مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة والاحترام الكامل لحقوق الإنسان، وتطبيق مندرجاتها خصوصا على صعيد الحريات العامة، وذلك وصولا إلى تطوير الفكر النقدي المبدع والمتحرر من القيود. كل هذا لن يكون إلا بإطلاق ورشة إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبرى، تؤدي بمسارها المتواصل والمصمم إلى تطوير نحو الديمقراطية الحقيقية التي يشعر معها الشباب العربي بالأمل الواعد، وبالقدرة على تحقيق ذاته والمساهمة الفاعلة في صناعة القرار، وفي بناء مستقبله ومستقبل بلاده وأمته. وتلك مهمة ليست سهلة. فقوى الشد العكسي كثيرة، وترى في الإصلاح خطرا على مصالحها الخاصة فتقاومه بلا هوادة. فلقد كنا في الأردن أعلنا الإصلاح ضرورة حتمية، ومهدنا الطريق للمضي به خطوات جادة وملموسة، تثمر إصلاحات سياسية لن ينجح من دونها الإصلاح الاقتصادي، الذي يشكل أولوية لانعكاسه المباشر على مستوى معيشة المواطنين. إلا أن المسيرة الإصلاحية، التحديثية، التطويرية تعثرت وتباطأت، فكانت ما إن تسير خطوتين إلى الأمام حتى تتراجع خطوة إلى الخلف؛ نتيجة مقاومة القوى المتمسكة بالراهن، حرصا منها على مصالحها الخاصة، حتى لو جاءت على حساب المصلحة العامة. من هنا تبرز الحاجة لتلاقي القوى الإصلاحية على طرح إصلاحي برامجي، يحيّد في ثباته وتصميمه القوى التي تصر على العيش في الماضي، وترفض أن ترى متطلبات العصر وشروط النجاح فيه.
ليست الساعة يوما، ولا اليوم أسبوعا، ولا الشهر عاما ولا عقدا من الأعوام. لم يعرف التاريخ البشري حقبة زمنية كان فيها الوقت أغلى منه في زمننا هذا. وإذا كان لي أن ألقي بين أيدي شبابنا وشاباتنا في العالم العربي تمنيا هو الأغلى والأكثر إلحاحا ما ترددت في القول: لا تهدروا من عمركم المنتج ساعة ولا يوما ولا أسبوعا. إن بلادكم وأمتكم بحاجة إلى عقولكم وسواعدكم تعمل لا تكل في مواكبة ركب التطور الإنساني، ليس فقط للحاق به، بل للمنافسة في كل مجالات الإبداع والتطور: في الإصلاح السياسي الحقيقي، والعدالة والمساواة، والمشاركة واحترام التعددية، وتعزيز العمل المؤسساتي، وإدارة الحاضر بأدواته لا بأدوات الماضي، والثقة بثراء تراثنا الثقافي وبقيمنا الإسلامية، والتوجه بهذا الثراء وهذه القيم نحو الحداثة الحقيقية متجاوزين أساليب الرفض والسلبية.
فلنطمح، ولنحلم، ولنستهدف الأفضل اليوم، والأفضل منه غدا، واثقين بعقلنا وبقدرتنا على الإنجاز. إن الإيجابية بحد ذاتها هي ثقافة غزيرة العطاء، فلنجعل منها ركيزة ونهجا في حياتنا. أما السلبية والخوف من التغيير والتردد أمام الطموحات الكبيرة فهي عوائق تبقينا أسرى آفاق ضيقة، وتحرم مجتمعاتنا من فرص المضي بقدراتها وطاقاتها إلى رحابها الواسعة. وإن تجاوز هذه السلبية التي تتمترس خلف «لا نستطيع، لا نقدر، وليس ممكنا» أمام كل طموح كبير أو فكرة رائدة، شرط للانتصار على التحديات وبناء الغد الذي تستحقه شعوبنا. بهذه الروح أتوجه إلى قرائي، وأخص من بينهم الجيل الشاب، وأقول لهم: ما من مستحيل أمام العقل والإرادة متى اجتمعا! أما على الصعيد الإقليمي والعربي، فالأمل قائم على بناء المزيد من آليات التعاون عبر المؤسسات. فهذا التعاون هو الذي يحقق التكامل بين الدول العربية ويوسع إطار المشاركة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويفتح مجال الربط بين بلدان الإقليم بشبكات الطاقة والمياه والنقل بحيث تكتمل دائرة التعاون وتزداد العروة الوثقى وثوقا.
إننا قادرون على بناء المستقبل الذي يستحقه أبناؤنا، وإننا لمصممون على ذلك بإذن العلي القدير ومشيئته.
وإنني إذ أتوجه بكتابي هذا أيضا إلى أبناء أسرتي الأردنية الواحدة، وإلى المواطن العربي حيثما كان، وأضع أمامهم ما وضعت أمام القارئ الأجنبي من أفكار وطروحات حول قضايانا العربية والإسلامية، وحول تجربتي في خدمة شعبي الأردني الذي يمثل تحقيق الأفضل له أسمى ما أسعى إليه، لآمل أن أكون قد أسهمت في إبراز الصورة الحقيقية لحضارتنا وإرثنا العربي والإسلامي. وعلى الرغم من كل التحديات، فإنني لن أكون إلا متفائلا بمستقبل أمتنا العربية والإسلامية، وقدرتها على بناء المستقبل الذي يليق بتاريخها، ويحقق لها المكانة المتقدمة بين الشعوب. وهذا أمل أجده يتجدد ويزداد قوة كلما استمعت إلى شاب أردني يتحدث بثقة وحماسة عن طموحات لا تقبل أن تحاصرها محددات الراهن، وإصرار على النهل من إمكانيات عصر تفوق فرصه كل تحدياته.
مقـدمـة عندما بدأت، منذ عامين، تحرير هذا الكتاب كنت آمل أن أروي فيه كيف تمكنت الولايات المتحدة وإسرائيل والعالمان العربي والإسلامي، وسط تراكم العوائق والمصاعب، من تحقيق السلام في الشرق الأوسط. وفيما أنا أخط هذه الكلمات لا يسعني سوى القول إن ما أرويه هنا هو قصة هذا السلام المنشود الذي لا ينفك يراوغنا ونحن لا ننفك مصممين على تحقيقه؛ ذلك أننا في هذه المنطقة من العالم، حيث منسوب التفاؤل أكثر انخفاضا من منسوب المياه، لا يسعنا أن نفقد الأمل.
لماذا، يا تُرى، يمكن أن يختار رئيس دولة أن يكتب كتابا؟ ما أكثر الأسباب التي قد تجعل أمرا كهذا يفتقر إلى الروية والحكمة، ذلك أن إدارة شؤون الدولة، حتى الدولة الصغيرة، هي عمل لا يبقي لصاحبه متسعا من الوقت، أضف إلى ذلك ضرورة الحفاظ على العلاقات الطيبة مع دول في الجوار وخارجه، قد يشعر العديد منها بالإساءة جراء عرض الحقائق بصدق كما تراها دولة أخرى. ولا ننسى أولئك الذين يودون إما أن تبقى أعمالهم وتصرفاتهم طي الكتمان، وإما أن يكال لها من الإطراء والمديح ما لا تستحقه.
لقد قررت أن أدع جانبا كل هذه الاعتبارات وأن أسير على بركة الله في كتابة هذا الكتاب؛ لأن الشرق الأوسط، هذه المنطقة ذات المراس الصعب والمعقد التي أعيش فيها، تواجه أزمة مفصلية دون ريب. في اعتقادي أننا لا نزال نمتلك فرصة أخيرة لتحقيق السلام، لكن الفسحة الواعدة بهذا السلام تضيق بوتيرة متسارعة. وإذا لم نسارع إلى اغتنام هذه الفرصة التي يتيحها الآن شبه الإجماع الدولي على الحل، فإنني على يقين من أننا سنواجه حربا أخرى في منطقتنا ستكون على الأرجح أسوأ مما شهدناه من الحروب، وستحمل معها تداعيات أشد كارثية.
إن ذاكرة شعوب المنطقة تمتد بها إلى سنوات طويلة، وهي لا تنسى المحاولات التي بذلت لجمع أفرقاء الصراع والتي باءت جميعا بالفشل. لا يزال عدد كبير من اللاعبين أنفسهم يتحرك على مسرح الأحداث، ويبدو أن منهم من سيبقى في قلب الحدث إلى سنوات آتية، وهذا ما قد يكون سببا وجيها يحول دون التكلم علنا على المسائل الحساسة. أما أنا فعلى يقين من أن العالم يجب أن يعرف المخاطر التي ينطوي عليها جلوسنا مكتوفي الأيدي حيال هذه المخاطر.
لقد عانى جيل والدي صدمة الحرب بمعدل مرة كل عشر سنوات، فبعد الحرب التي أشعلها إنشاء إسرائيل في العام 1948 وقعت حرب السويس في العام 1956، لتأتي بعدها الحرب الكارثية في العام 1967 التي استولت خلالها إسرائيل على الضفة الغربية وسيناء ومرتفعات الجولان، ثم وقعت حرب العام 1973 التي حاولت خلالها مصر وسورية استعادة الأراضي التي خسرتاها في العام 1967 ولكن المحاولة فشلت. بعد كل هذه الحروب وقعت الحرب بين إيران والعراق ليتبعها الغزو الإسرائيلي للبنان في أوائل ثمانينات القرن الماضي، ومن ثم حرب الخليج في العام 1991. إن الفترات الفاصلة بين حرب وأخرى يمكن اعتبارها فسحة للسلام ولكن بالحد الأدنى من مفهوم السلام الحقيقي، ففي السنوات الإحدى عشرة التي مضت منذ أن توليت مسؤوليتي ملكا للمملكة الأردنية الهاشمية شهدت خمسة نزاعات: انتفاضة الأقصى في العام 2000، الغزو الأميركي لأفغانستان في العام 2001، الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، ومن ثم العدوان الإسرائيلي على غزة في العام 2008 - 2009. وهكذا لا يمر عامان أو ثلاثة أعوام على ما يبدو دون أن تعاني منطقتنا المنهكة بالمتاعب نزاعا جديدا، وحين أنظر إلى الآتي القريب أراني في خوف كبير من أن نكون مقبلين على حرب جديدة بين إسرائيل وجيرانها تنطلق شرارتها من إحدى النقاط المشتعلة؛ ومن ثم تتسع وتتصعد بوتيرة مرعبة.
يعود الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين في الزمن إلى مطلع القرن العشرين، لكن هذا الصراع أشد وطأة في وقتنا الحاضر منه في أي وقت مضى. فمنذ انهيار عملية السلام في العام 2000 سقط ما يقارب ألف قتيل من الإسرائيليين، فيما سقط على أيدي القوات الإسرائيلية أكثر من ستة آلاف وخمسمائة فلسطيني، فضلا عن آلاف الجرحى. وها هو الشرق الأوسط بكل أرجائه يواجه اليوم تحديا خطيرا وحساسا حيال إيجاد الحل لهذا الصراع الذي يكاد يختصر التاريخ الحديث للمنطقة. ولكني أعتقد أننا إذا نجحنا في حل هذا الصراع، فسنكون قد عالجنا أحد أهم جذور العنف وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
حين ينظر الكثيرون من المعنيين في الغرب إلى منطقتنا يرونها أشبه بسلسلة من التحديات المنفصلة واحدها عن الآخر: فهناك التوسع الإيراني، والإرهاب الراديكالي المتطرف، والتوترات المذهبية في العراق ولبنان، وهناك الصراع المتمادي والمتزايد تعقيدا بين إسرائيل والفلسطينيين. لكن الحقيقة الساطعة هي أن كل هذه التحديات يتقاطع بعضها مع بعض، وأن الخيط الذي يربط في ما بينها هو الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
بالنسبة إلى المسلمين، يختلف الصراع العربي - الإسرائيلي نوعا وتعريفا عن أي نزاع آخر لهم به صلة. وخلافا لما يحلو للبعض أن يقول، ليس هذا الصراع في أساسه صراعا دينيا وإنما هو نزاع سياسي حول الحقوق والأرض. في العام 1900 كان على أرض فلسطين التاريخية تسعون ألفا من اليهود وخمسمائة وعشرة آلاف من العرب. وبعد مرور قرن من الزمن شهد دفقا من الهجرة اليهودية إلى فلسطين بات عدد اليهود الآن أكثر من ستة ملايين مقابل خمسة ملايين فقط من العرب. جاء عدد كبير من المهاجرين اليهود إلى فلسطين خلال فترة الاضطهاد النازي التي انتهت إلى واحدة من أكبر الفواجع في التاريخ الإنساني، وهي المحرقة (الهولوكوست). وهناك أعداد كبيرة طبعا جاءت في ما بعد عندما شرعت إسرائيل أبوابها أمام اليهود الآتين من نواحي الأرض الأربع، وبنتيجة حرب العام 1948 هُجّر مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين لم يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم. أما حرب العام 1967 فقد وضعت عددا كبيرا إضافيا - خصوصا الذين يعيشون في الضفة الغربية التي كانت جزءا من الأردن - تحت الاحتلال الإسرائيلي. ونتيجة لذلك، يعيش ملايين الفلسطينيين اليوم تحت هذا الاحتلال، فيما تشكل الممارسات الإسرائيلية تهديدا لهوية مدينة القدس. وتفسر أهمية القدس، على الأقل جزئيا، مدى مركزية المسألة الفلسطينية بالنسبة إلى العرب والمسلمين في كل أنحاء العالم.
من الأمور التي لا يدركها الغرب كما يجب، كون القضية الفلسطينية مسألة عالمية. حين أذهب في زيارة إلى إندونيسيا أو الصين وألتقي المسلمين هناك يبادرونني إلى التحدث عن القدس، وعندما زرت نيودلهي في العام 2006 والتقيت جمعا من المسلمين الهنود طرحوا عليّ السؤال التالي: متى سيحل العرب المشكلة الإسرائيلية - الفلسطينية؟ وعندما يعدد الباكستانيون مصادر مظالمهم تأتي إسرائيل مباشرة بعد الهند، ومن هنا فإن المسألة الفلسطينية تمثل قضية يتردد صداها العميق بين مليار ونصف المليار من مسلمي الأرض.
هذه الحقيقة تفسر (دون أن تبرر طبعا) كيف تستطيع الجماعات الراديكالية المتطرفة، كتنظيم القاعدة مثلا التي تدعي أنها تريد «تحرير» القدس، التلاعب الاستغلالي بالقضية واستدراج الآخرين إلى ارتكاب أعمال إرهابية تحت ذريعة الدفاع عن الإسلام والفلسطينيين. كذلك تفسر هذه الحقيقة سبب لجوء منظمات كحزب الله وحماس - على الرغم من أنهما مختلفان جذريا عن «القاعدة» من حيث المهمة والآيديولوجية - إلى التسلح بوجه إسرائيل، فضلا عن أسباب استجابة الأعداد المتزايدة من العرب والمسلمين إلى نداء العمل المقاوم. هذا النداء إلى الكفاح المسلح ضد الاحتلال يحوز مزيدا من الصدقية والاستجابة كلما أصيبت جهود بلدان عربية، كالأردن ومصر والمملكة العربية السعودية، بالفشل في سعيها إلى الوصول إلى السلام من خلال المفاوضات.
لكن إذا استطاعت إسرائيل أن تنسج سلاما مع الفلسطينيين، فعندئذ إلى أي تبرير معنوي - أخلاقي يمكن أن تلجأ أي حكومة أو جماعة مقاومة بغية الاستمرار في الصراع؟ إذا كانت القدس مدينة مشتركة، والقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية قابلة للحياة، سيدة ومستقلة، فماذا يبقى من الأسباب المنطقية لدى حكومة إيران، على سبيل المثال؛ لكي تستمر في خطابها وأعمالها المضادة لإسرائيل؟
من أمضى الأسلحة بوجه دعاة العنف من المتطرفين القضاء على ما يصرخون به من شعارات جذابة. وسيسهم حل المشكلة الأشد تجذرا عاطفيا في وجدان العالم الإسلامي من خلال إقامة دولة فلسطينية على أساس حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، في إزالة واحد من أكبر أسباب الصراع في العالم الإسلامي. ما من شك في أن تحقيق السلام العادل والقابل للاستمرار هو أحد أنجع السبل ضد التطرف. صحيح أنه لن يردع كل متطرف ومتعصب، لكنه سيحول ميدان الحركة تحويلا أساسيا بالاتجاه الإيجابي. من هنا فإن هذا الحل يجب أن يكون أولوية أميركية بقدر كونه أولوية عربية.
هناك ناحية أخرى من الصراع غالبا ما يساء فهمها وهي وطأته الثقيلة على مسيحيي القدس وعلى الأماكن المقدسة في المدينة. قبل حرب العام 1967 كانت الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية تحت إدارة الأردن الذي لا يزال يتحمل مسؤولية رعاية الأماكن المقدسة في المدينة القديمة، المسيحية منها والإسلامية على حد سواء. من هنا فإن الأردن يبقى مدافعا صلبا عن حقوق المسيحيين والمسلمين عندما يحاول الإسرائيليون ترسيخ احتلالهم غير القانوني للقدس الشرقية من خلال بناء المزيد من المستوطنات. اليوم لم يبق في القدس سوى ثمانية آلاف من المسيحيين، وكان عدد هؤلاء في العام 1945 يقارب ثلاثين ألفا. وقد اجتمعت السياسات الإسرائيلية مع الضغط الاجتماعي والاقتصادي الناجم عنها لتجبر أكثرية المسيحيين على الهجرة. إن الأكثرية العظمى من مسيحيي القدس هم من العرب، وفيما ترحب إسرائيل بالأجانب من المسيحيين الذين يأتون إلى القدس زائرين، نراها تثقل حياة المقدسيين منهم بالمصاعب الجمة. وفي هذه السياسة مفارقة غريبة، ذلك أن المسيحيين العرب هم المجتمع المسيحي الأعرق في العالم والذي تعود جذوره في القدس إلى عهد السيد المسيح عليه السلام. لقد تساوى الفلسطينيون، من مسيحيين ومسلمين، في المعاناة من وطأة الاحتلال، وهم يحملون التطلعات ذاتها إلى ممارسة حقهم في الحرية والدولة المستقلة.
في الجهود التي بذلت سابقا لتحقيق السلام كانت المقاربة الغالبة لدى الأطراف المعنية جميعا التقدم خطوة خطوة، بحيث يجري تناول المسائل الصغيرة وتأجيل المسائل الصعبة والمعقدة، كالوضع النهائي للقدس، إلى أجل آت. المشكلة في هذه المقاربة هي أننا لن نصل إلى النهاية المتوخاة ما دمنا نؤجل المشكلات الكبرى، وعلينا أن نجد حلا فوريا لقضايا الوضع النهائي الرئيسة وهي: القدس، واللاجئون، والحدود، والأمن، وهذا المسار، في المرحلة الراهنة هو الأمل الوحيد لإنقاذ الحل القائم على مبدأ الدولتين. ما من خيار آخر.
لقد وجهت في عدة مناسبات انتقادات قاسية لتصرف إسرائيل وتعنتها. لكن لا بد من الإشارة أيضا إلى أن هناك مسؤولية مشتركة إزاء فشل عملية السلام. على العرب والإسرائيليين أن يعترف كل طرف منهما بحاجات الطرف الآخر. إن حل الدولتين مبني على اعتراف الإسرائيليين بحقوق الفلسطينيين بالحرية وبدولتهم المستقلة، وعلى اعتراف الفلسطينيين وسائر العالم الإسلامي بحق إسرائيل بالأمن. ليس لدينا خيار سوى العيش معا، والمسؤولية المعنوية حيال السعي إلى السلام تقع على الطرفين كليهما؛ ذلك أن البديل هو المزيد من الصراع والعنف.
إن الجغرافيا والتاريخ والقانون الدولي تفرض كلها على الأردن أن ينخرط في عملية البحث عن حل للصراع. فعدد اللاجئين الفلسطينيين الذين يقيمون في الأردن هو الأكبر، إذ يصل إلى مليون وتسعمائة ألف لاجئ، ولدينا علاقات صداقة مع جيران إسرائيل من البلدان العربية، ومثلها مع الولايات المتحدة الأميركية. كذلك نحن واحد من بلدين اثنين فقط من البلدان العربية تربطهما بإسرائيل معاهدة سلام.
إن مفتاح تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعالم الإسلامي بكامله هو في حل صراعها مع الفلسطينيين. وكان والدي قد صاغ في السنوات الأخيرة من عهده اقتراحا لتحقيق السلام الشامل بين إسرائيل والدول العربية الاثنتين والعشرين مقابل انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية. لكن مشروعه هذا لم يجد مساره نحو التحقيق وما لبث أن انتهى مع وفاته. عندما توليت مسؤولياتي ملكا أعدت طرح اقتراح والدي، وكلفت الحكومة بحثه مع مصر والمملكة العربية السعودية. بعد ذلك طورت السعودية الاقتراح ومضت به إلى الأمام وذلك عندما قدم ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود مبادرته للسلام إلى مؤتمر القمة العربية في بيروت في العام 2002. وتبنت القمة العربية الطرح السعودي الذي عرف في ما بعد بـ«المبادرة العربية».
دعت المبادرة العربية إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل من كل الأراضي العربية المحتلة منذ العام 1967، وإلى التفاوض على تسوية لمسألة اللاجئين الفلسطينيين، وإلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية. مقابل ذلك قالت الدول العربية الاثنتان والعشرون إنها ستعتبر «الصراع العربي - الإسرائيلي منتهيا، وستدخل في اتفاق سلام بينها وبين إسرائيل يحقق الأمن لجميع دول المنطقة». بالإضافة إلى ذلك أعلنت الدول العربية أنها ستقيم علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل. حيال هذا العرض أصابتني الدهشة من رفض إسرائيل، وحتى بعض أعضاء الإدارة الأميركية، هذه المبادرة بالمطلق. وتبين لي من خلال مباحثاتي في ما بعد مع العديد من هؤلاء أنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى قراءتها. حول مسألة اللاجئين، على سبيل المثال، اقترحت المبادرة العربية «التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194». والتعبير الأساس في هذه الجملة هو «يتفق عليه». وعندما ذكرت هذا الأمر للإسرائيليين أبدوا تعجبهم، حتى إن بعضهم اعترف بأنه لم يقرأ المبادرة. هذا العرض الذي لم يسبق أن طرح مثله من قبل وافقت عليه لاحقا الدول السبع والخمسون الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، لكن المؤسف أن إسرائيل لم تأخذ المبادرة قط على محمل الجد، كما لم تعترف بما حملته من فرصة غير مسبوقة. إننا لا نزال عالقين في حبكة السبل القديمة ونتفاوض حول المسائل الثانوية بينما نرجئ اتخاذ القرارات الصعبة. يبدو أن إسرائيل تشعر بأن لديها متسعا كبيرا من الوقت، لكن مماطلتها وتراجعاتها ومناوراتها التكتيكية كلفت كلها أثمانا باهظة.
لقد دمرت الأحداث التي شهدتها السنوات الإحدى عشرة الماضية الثقة بين الجهتين المعنيتين، وها نحن اليوم نرى صدقية عملية السلام وقد تلاشت كليا، وحين تنهار الثقة انهيارا كاملا بين الطرفين قد يصبح من المحال إعادة بنائها مجددا. على أصدقاء إسرائيل جميعا أن يشجعوها على الانخراط الكامل والسريع في عملية صنع السلام، أما الولايات المتحدة، الصديق القديم والمخلص لإسرائيل، فعليها ألا تتردد في دفع فريقي الصراع - بشيء من التشدد متى دعت الحاجة - إلى طاولة المفاوضات بغية الوصول إلى التسوية النهائية.
إن إرادة الإصغاء ومد اليد اللذين أبداهما الرئيس الأميركي باراك أوباما متوجها بهما إلى العالمين الإسلامي والعربي قد فتحا نافذة للأمل ولو محدودة، غير أن العرب والفلسطينيين، لا شك، محبطون حيال التقدم المحدود جدا الذي تم إحرازه. وقد واجه الرئيس أوباما الانتقاد عندما ضغط على رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو طالبا إليه تجميد بناء المستوطنات، وتضررت صورة أميركا ومكانتها نتيجة التعنت الإسرائيلي. لكن يبقى من الخطأ الفادح أن يتراجع أوباما عن هذا التوجه، فإذا تلكأت أميركا اليوم عن ممارسة قوتها المعنوية والسياسية لإيصال الطرفين إلى الحل المبني على قيام دولتين، فعندئذ قد لا تتاح أمامنا فرصة أخرى كهذه. نافذة الأمل تميل إلى الانغلاق، وإذا نحن تقاعسنا عن العمل السريع باتجاه الحل، فإن الأجيال المقبلة سوف تدين فشلنا في اغتنام هذه الفرصة الأخيرة لإنجاز السلام.
السلام بحد ذاته نعمة لا تقدر، لكن الفوائد التي أراها ناتجة من تحقيقه تتجاوز بقيمتها حتى هذه النعمة الثمينة. فلا شك في أن المنظمات الإرهابية تستغل المظالم التي يتسبب بها استمرار الاحتلال، ومن هنا فإن حل الصراع سيحرم تلك المنظمات من قدرتها على استقطاب الدعم والمؤيدين. كثيرون أولئك الذين يدعون أن الكراهية والحقد اللذين تبثهما الفئات المتطرفة على ضفتي الصراع في الأراضي المقدسة لا يمكن التغلب عليهما، لكن التاريخ قد أظهر أن السلام يمكن أن ينتصر حتى بين ألد الأعداء. في الأمس القريب ربما كان المراقبون يظنون أن التوتر القائم عبر جدار برلين أو بين الفئات المتنازعة في آيرلندا الشمالية لن يهدأ ولن يزول، وها نحن الآن لا نرى في تلك الصراعات سوى ذكريات عبرت. فلِمَ، والحال هذه، لا نطبق ذلك في الشرق الأوسط؟
ليس الإتيان بالسلام القضية الوحيدة التي نكافح من أجلها، فمن بين التحديات الكبرى التي نواجهها الإصلاحات السياسية وتحسين اقتصاداتنا. علينا أن نتعلم صنع السلع التي يمكن تسويقها في العالم، وكيف نرفع من مستويات العيش لدى شعوبنا عبر توفير التعليم الجيد وفرص العمل المنتج لشبابنا وشاباتنا، ومن خلال هذا النوع من الإنجازات نقيم خط الدفاع الأصلب في وجه صراخ المتطرفين. ليس بمقدورنا أن نتحمل وجود هذا العدد من الشباب العاطل عن العمل، وعلينا أن نتيح للنساء أن يضطلعن بدور أكبر في دورتنا الاقتصادية. إن ما يدفعنا إلى الحؤول دون قيام النساء بدورهن كاملا وإبقائهن خارج القوة العاملة، بذرائع دينية وثقافية، إنما ينبع من الشعور العميق بعدم الأمان والاطمئنان، ولكن ليس مقبولا أن ننكر على نصف المجتمع حقوقه وأن يبقى نصف القوى العاملة في المنزل مكتوف اليدين دون عمل منتج.
فلنفكر في عالم تضافرت فيه بفاعلية الخبرة الإدارية لدى الإسرائيليين، مع الكفاءة المهنية لدى الأردنيين، وريادة اللبنانيين، والمستويات العلمية لدى الفلسطينيين. إنني أرى في تضافر القوى بين هؤلاء الشركاء المحتملين نواة تجمع اقتصادي أشبه ما يكون بتجمع دول «بينيلوكس» بين بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ في الشرق الأوسط. كل هذا يمكن تحقيقه. لكن الأوضاع على الأرض تنزلق سريعا من بين أيدينا وتجعل الوصول إلى هذه الغاية احتمالا ضئيلا. وإذا لم تتوقف الممارسات الحالية، فلن تبقى هناك أرض لمقايضتها بالسلام، ولن يبقى هناك ما يدعو الفلسطينيين إلى المراهنة على القادة المعتدلين دون المتطرفين منهم. مستقبلنا، في هذه الحالة، سوف يصبح لقمة سائغة في أشداق الحروب والنزاعات.
هناك ميل في الحياة وفي السياسة إلى الخضوع للواقع الراهن. لكن لا يمكن فعل ذلك في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ لأن الاستقرار الظاهر ليس حقيقيا. فأنا أسمع وأشعر بالإحباط والغضب يتزايدان. وما أخشاه هو أن يحجبا في وقت قريب كل أحلام السلام والمصالحة. لا أحسب أكثرية الأميركيين والأوروبيين يدركون مدى خطورة الوضع. وهذه الخطورة هي ما دعاني إلى وضع هذا الكتاب. فلقد شهدت وتعلمت الكثير منذ خلفت والدي لإحدى عشرة سنة خلت. وأنا مصمم على مشاركة قرائي قصتي بكامل الانفتاح والصدق على أمل أن يحدث ذلك الفرق الذي أتوخاه.
في المنطقة التي أنتمي إليها نعيش التاريخ بحلوه ومره، وما قد يبدو عن بُعد أمرا مجردا وغير ملموس إنما هو جزء من نسيج حياتنا اليومية. لقد بات يقينا عندي أن أفضل السبل لرواية هذه القصة وأكثرها إقناعا هو أن أرويها من خلال قصة حياتي الشخصية - أي بإشراك قارئي في ما رأيت وما فعلت - إثباتا لكون الشخصي والسياسي غالبا ما يتحابكان وينتجان مزيجا جديدا.
لم يدر في ذهني يوما أنني سأشغل الموقع الذي عهد به إليّ والذي أشغله اليوم، وكنت أتوقع أن أمضي حياتي في الجيش. جزء من قصتي هو عن تلك الخبرة العسكرية وما علمتني إياه عن الأردن وعن شؤون القيادة بصورة عامة. لقد حاولت أن أروي قصتي ببساطة، مستخدما لغة الرجل العسكري المباشرة والتي تسمي الأمور بأسمائها، بدل تلك المطولات من الجمل والتعابير المحببة إلى قلوب السياسيين.
آمل في هذا الكتاب أن أبدد الأفكار الزائفة حول المنطقة التي أعيش فيها. ففي غالب الأحيان عندما يسمع الناس في الغرب كلمات مثل «عربي» أو «مسلم» أو «الشرق الأوسط» يتبادر إلى أذهانهم الإرهاب والانتحاريون والمتطرفون من ذوي العيون الجاحظة المختبئون في ظلمات الكهوف. أما أنا فأريدهم، متى ورد ذكر منطقتنا أمامهم، أن يتبادر إلى ذهنهم ما يشهده الأردن اليوم من مشاريع بملايين الدولارات في مجال تكنولوجيا المعلومات، وأن يفكروا بحائزي جوائز نوبل الأدبية في مصر، وأن لا تغيب عن ذهنهم روائع فنون العمارة في ربوع دمشق.
لعل من أخطر الأفكار التي برزت في السنوات الأخيرة الطرح القائل بأن الغرب والعالم الإسلامي هما كتلتان منفصلتان تتجهان بصورة حتمية إلى التصادم. هذا مفهوم لا يستند إلى معرفة صحيحة، وهو خاطئ ومثير للهواجس والغضب. طوال ما يزيد على ألف سنة عاش المسلمون واليهود والمسيحيون بسلام جنبا إلى جنب يغني أحدهم ثقافة الآخر وتراثه. ما من شك في أن نزاعات قد نشبت بين حين وآخر مثل الحملات الصليبية أو الاستعمار الأوروبي للعديد من بلدان الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى. لكن هذه كلها كانت نزاعات سياسية استمدت جذورها من فترات وأطر زمنية معينة ولم تكن مظهرا من مظاهر العداء الثقافي الأبدي.
بعد دراستي العسكرية في ساندهرست، خدمت على مدى سنة في الكتيبة 13/18 في قوات الهوسار (الخيالة) البريطانية وهي كتيبة ذات تاريخ عسكري حافل يعود إلى ما يقارب ستة عقود قبل معركة واترلو. كذلك شاركت هذه الكتيبة في حرب القرم في أواسط القرن التاسع عشر، وهي الحرب التي شهرتها قصيدة ألفرد تنيسون بعنوان «هجوم كتيبة البرق»، والتي خاضتها بريطانيا وفرنسا إلى جانب الإمبراطورية العثمانية لحمايتها من الغزو الروسي. في تلك الحقبة كان أكثر من نصف مواطني الإمبراطورية، البالغ عددهم آنذاك ثلاثين مليون نسمة، من المسيحيين، وكان عدد كبير منهم يخدم في الجيش العثماني، وقد حارب الجنود المسلمون بشجاعة على طرفي النزاع فكانوا في صفوف الجيش الفرنسي كما في صفوف الجيش الروسي. إن هذا الطرح الخبيث والمؤذي القائل بصدام الثقافات ينساب إلى الساحة السياسية الحديثة فيضخ القوة في عروق المتطرفين حيثما وجدوا ويشد من عزيمة أولئك الذين يودون تحريض الرجال والجيوش بعضهم على بعض الآخر. إذا حدث أن نفذ جزائري أو أفغاني أو أردني هجوما إرهابيا فمن المحتم أن يوصف في الغرب بأنه «إرهابي مسلم»، ولكن إذا ارتكب رجل آيرلندي أو سريلانكي هجوما مماثلا فهو نادرا ما يوصف بـ«الإرهابي المسيحي» أو «الإرهابي الهندوسي» وإنما يصنف بحسب دوافعه السياسية باعتباره «ناشطا في الجيش الجمهوري الآيرلندي» مثلا أو «انفصاليا من التاميل».
من الناس من ينظر إلى التاريخ من زاويته الضيقة فيفترض أن مسار الأمور كما نراه الآن هو نفسه كما كان في الأزمنة الغابرة. لكن علينا ألا ننسى أن التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الذي أحرزه الغرب هو تطور حديث نسبيا جاء نتيجة الحركة التحديثية المدهشة وما تبعها من ازدهار في أوروبا وأميركا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. أما من يلقي نظرة أبعد وأكثر عمقا فإن الأمور تبدو له مختلفة إلى حد كبير. ففي العصور الوسطى، يوم كانت واشنطن مجرد مستنقع لا أكثر، كانت مدن القدس وبغداد ودمشق العظيمة المراكز الريادية العالمية في مجالات التعلم والمعرفة. لكن مع مرور الزمن اتخذ التاريخ وجهة أخرى ومال نحو الغرب. وبحلول القرن العشرين كان العالم العربي قد تراجع إلى الصفوف الخلفية.
تنحدر عائلتي، الأسرة الهاشمية، من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وقد تولى أفراد منها مواقع القيادة والحكم في هذه المنطقة من العالم طوال أجيال وأجيال. في نحو القرن الخامس كان أحد أسلافي ويدعى قصي بن كلاب أول من تولى حكم مكة. وإرثي قائم على التسامح وقبول الثقافات والديانات المختلفة. يقول الله عز وجل في محكم تنزيله:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13).
لم أشعر يوما بأن التفاعل مع الثقافة الغربية يتم على حساب هويتي بوصفى عربيا أو مسلما، فأنا شخص ولد في الشرق وتلقى تعليمه في الغرب، أشعر بألفة عميقة حيال الثقافتين كلتيهما، ومن هنا أملي في أن يشكل هذا الكتاب، ولو بطريقة متواضعة، جسر تواصل بين هاتين الثقافتين. في معظم الأحيان يتولى المتطرفون وضع إطار البحث ويهيمنون على النقاش، وفي أغلب الأحيان تنحسر أصوات العرب المعتدلين وتغرق وسط صراخ الذين يرفعون الصوت أكثر. أما أنا فلن ألجأ إلى الصراخ، لكنني مصر على إسماع رسالتي أنّى تيسر لي ذلك. أريد أن أخبر العالم بأن منطقتنا تعاني مشكلات كبرى، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا هو أن أمامنا ما يدعو إلى الأمل.
* الكتاب يصدر عن «دار الساقي»
0 التعليقات :
إرسال تعليق