الذين يحاولون تكبيل العروبة بالقيود العرقية يرتكبون خيانة قومية
المهدي في ورقة عن الهوية السودانية
الإمام الصادق المهدينظم مركز الراصد للدراسات السياسية والإستراتيجية، ضمن سلسلة منتدياته التي نظمت تحت شعار (السودان وطن يسع الجميع) ندوة قدم خلالها الأمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار ورقة بعنوان (الهوية في السودان: جدلية الصراع والتعايش).. (الأخبار) تورد هنا أهم ما ورد في الجزء الثاني من تلك الورقة..
هؤلاء غذوا الكراهية بين الجنوبيين والشماليين
الإسلام لم يدخل السودان بحد السيف أبدا، إنما استماله ضياء الدعوة الإسلامية. أما الجنوب فقد دخل مع الشمال في وحدة طوعية بموجب قرارات مؤتمر جوبا في 1947م، وبموجب قرار البرلمان السوداني في 19/12/1955م الذي شارك فيه الجنوبيون. والحديث عن سيوف الإسلام هرطقة فارغة.
وتضيف الورقة- آخرون من أهل الشمال رحبوا بانفصال الجنوب على أسس عنصرية، باعتبار الجنوب وأهله سرطانا مؤذيا وعبئا ثقيلا على الشمال، وانفصاله نعمة بلا حدود. هؤلاء غذوا الكراهية بين الجنوبيين والشماليين، ويغذون العداء بين أهل الشمال وأهل الجنوب، ويفوت على هؤلاء أنه حتى بعد انفصال الجنوب الجغرافي يوجد جنوب ثقافي ينبغي توفير العوامل الفعالة لاستمراره في وحدة طوعية مع الشمال، كما أن هنالك عددا كبيرا من الجنوبيين الباقين في الشمال والذين هم سودانيون بالميلاد حتى إذا استقل الجنوب الجغرافي.
هنالك مصلحة كبرى لعدد كبير من قبائل الشمال الرعوية، الذين تجبرهم ظروف المراعي في الصيف على عبور الحدود الجنوبية جنوبا، ويتطلعون لتأمين مصالحهم بعد قيام دولة الجنوب الجديدة.
1. الذين يتحدثون عن الجنوب كسرطان تم بتره، والذين يتحدثون عن الجنوب كرقعة فتحتها سيوف المسلمين وأن تقرير المصير حرام، والذين يتحدثون عن الشمال بعد انفصال الجنوب باعتباره وطنا لهوية واحدة ولا مجال للاعتراف بالتنوع، إنما يمهدون لعلاقات توتر داخل الشمال، ولعلاقات عداء بين الشمال والجنوب، وهم بذلك إنما يوفرون العوامل التي يستغلها أعداء السودان لتفكيكه:
لا يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه!
كان المسلمون تاريخيا أكثر الناس تسامحا مع الملل الأخرى، ولكن ظروفا تاريخية معينة جعلت بعض الفقهاء والمفسرين يجنحون للتشدد، بدءا من الخوارج الذين كفّروا كل من خالف اجتهادهم، إلى الذين اعتبروا آية أو آيات السيف الثلاث ناسخة لكل آيات التسامح وهي 150 في القرآن، وبذلك كفّروا كل من لم يقبل تأويلهم وأهدروا دمه.
عالم اليوم شهد على الصعيد الدولي درجة عالية من التسامح، نتيجة معاناة الإنسانية من حروب الملل (الأديان) والنحل (الأيديولوجيات)، هذه الدرجة الأعلى من التسامح هي التي عبرت عنها مواثيق حقوق الإنسان العالمية، حقوق على كثرة مواثيقها ومعاهداتها تعود إلى خمسة أصول هي: كرامة الإنسان، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام. وقد أثبت في كتابي "الإنسان بنيان الله" كيف أن الإسلام ومن نصوص الوحي فيه يقدس هذه الأصول، نحن أولى بالاعتراف بالآخر والتعامل معه بالتسامح ما يلزمنا بالتصدي القاطع للتأويلات الإقصائية وشرح معاني آيات التسامح ومقاصد التعايش في الإسلام، لا سيما ونحن في عالم اليوم نجد أن ثلث المسلمين يعيشون أقليات دينية في مجتمعات الآخرين، ويتطلعون لتعايش وتسامح يصون حقوقهم، المطلوب هو تطوير فقه إنسانية الإسلام.
كذلك أدى مناخ التعايش والتسامح بين الأديان إلى زيادة انتشار الإسلام في العالم. إن الإسلام اليوم يفتح بسيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) وبالقرآن ما لا يفتح بالسلطان، على نحو ما قالت السيدة عائشة (رضي الله عنها) إن المدينة فتحت بالقرآن، والسودان نفسه فتحته للإسلام الدعوة لا الدولة، والعروبة نفسها لم تنشر كما جرى في التاريخ على أساس عنصري، بل على أساس ثقافي على نحو ما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (ليست العربية لأحدكم من أم أو أب من تكلم العربية فهو عربي)، وجدنا إسماعيل كنعاني خالط العرب وصاهرهم وأمه هاجر نوبية، والكثافة السكانية من فينيقيين، وبابليين، وأقباط، ونوبيين، وزنوج، وبربر، استعربوا ووجدوا العربية وطنا ثقافيا لهم، لأن العروبة تحررت من قيود الإثنية الضيقة وفتحت أبواب التثاقف الواسعة.
العروبة لسان
إن الذين يحاولون تكبيل العروبة بالقيود العرقية، إنما يرتكبون خيانة قومية ويعارضون مقولة بطل العروبة الأول محمد (صلى الله عليه وسلم) إذ قال إن العروبة لسان.
هذا الفهم الإنساني للإسلام وللعروبة، هو الذي يسعفنا في ظروف التعايش والتسامح مع الآخر داخل أوطاننا وعلى صعيد العالم.
2. إن لاستقرار دولة الشمال بعد انفصال الجنوب ومحافظتها على وحدتها، استحقاقات ينبغي الإلمام بها وتوافرها باتخاذ خطوات استباقية لدستورها الدائم.
دستور اتفاقية نيفاشا وثيقة اتفاق حزبي ثنائي أملته رؤى أجنبية غير ملمة بالواقع القومي السوداني، وقد وضعناه في الميزان في دراسة نشرت في مايو عام 2005م، ما عدد عيوبه التي كشفت عنها الأيام أثناء الفترة الانتقالية، وينبغي تجاوزه في المرحلة القادمة وتكوين لجنة قومية لكتابة دستور دائم جديد، دستور يرجى أن يلتزم بإقامة الدولة الديمقراطية المدنية، وأن يوفق بينهما وبين المرجعية الإسلامية، وأن يلتزم باللا مركزية الفيدرالية، وأن يكفل الحريات العامة وحقوق الإنسان، وأن يستصحب مبادئ ميثاق يكفل التعايش بين الأديان وميثاق يكفل التعايش بين الثقافات، ويقيم آلية حقانية للحقيقة والإنصاف، دستور ينص على ضوابط عادلة لتقسيم الموارد، وعلى تقاسم السلطة، وعلى مفوضية لحراسة حقوق الإنسان، وعلى مفوضية مستقلة لإدارة الانتخابات، دستور تصوغه هيئة قومية شاملة للمكونات الحقيقية لخريطة البلاد السياسية، وتجيزه جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا حرا نزيها.
3. هنالك بؤر خلاف بين دولتي السودان لا يمكن حسمها قبل نهاية الفترة الانتقالية كما لا يمكن حسمها في نطاق شريكي اتفاقية السلام، هذه البؤر ما بين عشر وعشرين، يرجى أن تحال لمفوضية حكماء مكونة من شخصيات وفاقية مؤهلة وتفوض للتشاور مع كل الأطراف المعنية وتقدم توصيات لحل النزاعات المذكورة في بحر عامين.
4. التعامل بين دولتي السودان في المستقبل ركن أساسي لتحقيق السلام والتعايش والاستقرار فيهما، لذلك يرجى وبصورة استباقية الاتفاق على أسس علاقة خاصة بينهما وصفناها بالتوأمة، وينبغي التداول بشأنها والاتفاق عليها قبل يوليو القادم لكيلا تترك العلاقة بين دولتي السودان نهبا للمجهول، وبالتالي فرصة للأعداء المتربصين لنصب الفخاخ وتوريط البلدين في مساجلات صفرية تؤجج حربا باردة أو ساخنة تودي بالسلام الذي ما قُبل تقرير المصير للجنوب إلا لتحقيقه.
لا يمكن لدولة الشمال الاستقرار وبناء الوطن على أسس صحيحة ما لم تعالج أزمة دارفور المستفحلة، وهشاشة سلام الشرق، بل والتوتر الجهوي الموجود في سائر المناطق.
هناك فوارق إثنية وثقافية واقتصادية بين الجماعات السودانية، في دولة الشمال لابد من الاعتراف بالتعددية والتمييز الايجابي في خطة التنمية القومية، وإلا ستبحث هذه الجماعات عن حماية وستجدها من الغرب، وبذلك نكون دفعناهم دفعا للتناصر بالأجنبي.
هنالك إعلان مبادئ يستجيب لمطالب أهل دارفور المشروعة ويعمم الحقوق المنصوص عليها فيه لتحقيق العدالة والتوازن في كافة مناطق السودان. إنها هندسة لإدارة التنوع في معادلة تحقق التوازن والاستقرار، وتسد كافة الثغرات التي تهدد الأمن القومي السوداني وتفتح مجالا للكيد الأجنبي.
أهم عامل عقّد مسألة دارفور هو محاولة حلها تحت سقف اتفاقية نيفاشا، وهي محاولة للحل دون الاستحقاقات المطلوبة، فإن دفعت منذ عام 2006م لحلت واستقر السلام:
رُبَّمَا تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ الْأَمْرِ
لَـــهُ فُرْجَةٌ كَحَـــلِّ الْعِقــــَالِ
منعا لتكرار السيناريو
5. إذا تقاعس السودان عن هذه الاستحقاقات فإنه سوف يفتح بابا واسعا لتكرار سيناريو الجنوب في أقاليم أخرى، ويشتبك مع دولة الجنوب في مساجلة صفرية خاسرة، ما يؤدي لاستقطابات عدائية إقليمية حادة تودي بالسلام في المنطقة، وتجذب إليها كافة التناقضات السائدة في منطقة البحيرات العظمى، وفي القرن الأفريقي، وفي البحر الأحمر، وفي البحر الأبيض ما يوفر أثمن هدية للأعداء الإستراتيجيين. إن الوعي التام بهذه المخاطر ومآلاتها واجب وطني ملح ينبغي الإلمام به والتحرك السريع الحاسم لدفع استحقاقاته.
هندسة الديمقراطية والتوازن المطلوبة في دولة الشمال كذلك مطلوبة في دولة الجنوب، والتحديات التي تواجه دولة الجنوب الجديدة أكبر من تحديات الشمال، وربما ساعدها على التغلب عليها ثلاثة عوامل: فرحة الانتصار، والتعاطف الدولي، وتحلي قيادته بدرجة أقل من عنجهية الرضا عن الذات، فالاستعداد للتعليم.
6. إذا نحج السودان في إدارة التنوع داخليا فإن هذا يؤهله لدور تاريخي في أنموذج توحد يضم جناحي أفريقيا شمال وجنوب الصحراء، ويقوم بتجسير إيجابي لكافة المناطق التي يجاورها.
نجاح السودان هذا سوف يؤهله لدور رسالي يتجاوز به محنة الانفصال، أدواته:
• في حوض النيل السودان وحده الذي يملك أراضي شاسعة صالحة للزراعة، هذه الحقيقة مع توافر الثروة الحيوانية والمراعي تؤهله ليصير سلة غذاء المنطقة بجدارة، ويساهم للدول المعنية لا سيما مصر وأثيوبيا في تحقيق الأمن الغذائي.
• السودان مؤهل لدور تصالحي في حوض النيل يمكن من استغلال الطاقة الكهرومائية في أعالي النيل الأبيض والأزرق لتوفير الكهرباء بأسعار منخفضة لكل دول الحوض بل ولتصديرها، ويتبنى السودان توحيد الشبكات الكهربائية لتحقيق ذلك.
• السودان يملك المخزون الأكبر للبترول في المنطقة، ما يمكن من دور المصدر للمحروقات لكل دول المنطقة، والشريك الأكبر لدولة الجنوب لاستغلال بترولها.
• يستطيع السودان القيام بدور أساسي في التخطيط لجذب رؤوس الأموال العربية لدول أفريقيا جنوب الصحراء لا سيما في القرن الأفريقي، وشرق وغرب أفريقيا.
إنه المنفذ الأفضل لاستثمار تلك الأموال بعد أن اتضحت مخاطر الاستثمار في أوروبا وأمريكا، هذه الأموال ما بين تريليون وتريليونين دولار أولى بها الاستثمار في الفضاء العربي الأفريقي.
• ويتبنى السودان مشروع تبادل تجاري كبير لفتح الأسواق العربية للمنتجات الأفريقية الاستوائية، كما يتبنى تبادلا تجاريا لفتح الأسواق الأفريقية لمنتجات عربية.
• إذا اتخذ السودان نهجا استراتيجيا لاحتواء أي آثار سالبة لانفصال الجنوب، وأقام علاقة خاصة ناجحة مع دولة الجنوب فإنه بذلك يقدم أنموذجا لعلاقة كونفدرالية لفضاء عربي أفريقي واسع.
لكل ما سبق هنا من تحليل ومقترحات، فإن التحدي الذي يواجه السودان الآن يتطلب عبورا لعهد جديد، عهد يحقق الديمقراطية والتوازن، واستيعاب القوى الجديدة، ويواكب التحولات الجديدة في المنطقة، التحولات التي سوف تعصف بالقبضة الفاشستية التي حققت استقرار المقابر في المرحلة الماضية.
في ظروف السودان الحالية وما يحيط به إقليميا ودوليا، فإن الاستسلام لهوية أحادية تؤجج الصراع سيناريو، انتحار ينبغي تجنبه لصالح هوية توفق بين التنوع والوحدة طوق نجاة للوطن.
نَخَلَتْ له نَفْسي النَّصِيحةَ إنّه
عندَ الشدائدِ تَذْهَبُ الأَحْقادُ
ولكن كان ولا يزال وسوف يظل ما قاله تعالى: (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)..
====================
المصدر: الأخبار
0 التعليقات :
إرسال تعليق