الإنسان والكومبيوتر.. من سيفوز في النهاية؟
الآلات تتقدم بعد تغلبها على غموض اللغات البشرية
في فجر عصر الكومبيوتر الحديث تأسس اثنان من المختبرات التي تمولها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا. وفي أحد هذين المختبرين عملت مجموعة صغيرة من العلماء والمهندسين في مشروع لاستبدال العقل البشري، بينما عملت مجموعة مشابهة على تجارب لتعزيز قوته وقدراته، في المختبر الآخر.
وفي عام 1963 شرع عالم الرياضيات جون مكارثي الذي تحول عالما للكومبيوتر بتأسيس مختبر للذكاء الصناعي في الجامعة ذاتها. واعتقد الباحثون أن الأمر سيستغرق عقدا من الزمن لإنتاج آلة قادرة على التفكير. وقام في العام ذاته أيضا عالم الكومبيوتر دوغلاس إنجيلبارت بتشكيل ما سمي «مركز أبحاث تعزيز القوة» بغية ملاحقة هدف مختلف تماما، ألا وهو تصميم نظام كومبيوتري من شأنه تجميع الذكاء البشري لمجموعات صغيرة من العلماء والمهندسين.
ذكاء صناعي متقدم
* وخلال العقود الأربعة الماضية كان الصراع الأساسي يجري بين نظم الذكاء الصناعي «إيه آي» (artificial intelligence - AI) وطرق تعزيز الذكاء «آي إيه» (IA - intelligence augmentation). واحتل هذا الأمر موقع القلب في سيرورة تقدم العلوم الكومبيوترية، لكون هذا الحقل أنتج سلسلة من التقنيات التي غيرت وجه العالم. واليوم مع استمرار تسارع وتيرة التغير التقني بات بالإمكان تصميم نظم كومبيوترية من شأنها إغناء التجربة الإنسانية، وفي حالات كثيرة متزايدة التصرف بها كليا.
وقد جرى تسليط الضوء على منجزات التقدم الحاصل في الذكاء الصناعي عند إذاعة تفاصيل مسابقة مسجلة، تم فيها تأليب نظام كومبيوتري من «آي بي إم.» يدعى «واتسون» ضد اثنين من أفضل المغامرين، هما كين جيننينغس وبراد روتر.
ونظام «واتسون» هذا هو حصيلة جهد قام به باحثون في «آي بي إم» لتطوير مجموعة من الفنون والأساليب المستخدمة لمعالجة اللغة البشرية. وهو يقدم دليلا مذهلا على أن نظم الكومبيوتر باتت غير مقيدة منذ الآن فصاعدا بالأوامر البسيطة التي تعطى لها. إذ إن هذه الآلات ستكون قادرة على اختيار والتقاط الكلمات العامة المحكية، والفوارق البسيطة، وحتى الأحجية. وللتغلب على مشكلة الغموض الذي يكتنف عادة اللغات البشرية، بات علم الكومبيوتر يقترب الآن مما يسميه الباحثون «مشكلة فندق (هيلتون) في باريس». وهي القدرة مثلا على تقرير ما إذا كان الشخص الذي يحاول أن يحجز غرفة له في فندق باريسي جادا أو يحاول التسلية وإضاعة الوقت على الإنترنت.
وكما توقع الكثيرون تمكن «واتسون» من التغلب على خصومه من البشر أخيرا، وهذا قد يكون له عواقبه الفلسفية، وما قد يلي ذلك من تغييرات عميقة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي. وكان رجال الاقتصاد يجادلون بأنه في الوقت الذي باتت الأشكال الجديدة من الأتمتة قد تحل محل الوظائف البشرية، إلا أن النمو الاقتصادي، وإيجاد وظائف جديدة على فترات طويلة، استمرا في إزاحة أي تقنيات مدمرة للوظائف من الطريق. ومثال على ذلك أنه خلال فترن القرن ونصف القرن الماضية من الزمن اعتبر التحول من المجتمع الزراعي بأغلبيته إلى مجتمع آخر بحيث إن أقل من واحد في المائة من القوة العاملة في الولايات المتحدة يعمل في القطاع الزراعي، دليلا على قدرة الاقتصاد على تجديد ذاته.
طبعا كان ذلك قبل أن يتسنى للآلات فهم اللغة البشرية، وهذا التقدم السريع في معالجة اللغة الطبيعية سيؤدي إلى موجة جديدة من الأتمتة الواعدة بتغيير قطاعات اقتصادية، التي لا تزال حتى اليوم غير متأثرة بالتغيرات التقنية.
وتقول باتي مييس، عالمة الكومبيوتر في مختبر «ميديا لاب» التابع لمعهد ماساتشوستس للتقنيات (إم آي تي): «إننا كمصممين للعدد والأدوات والمنتجات والتقنيات علينا أن نفكر أكثر حيال هذه القضايا»، إذ ليس المصممون وحدهم باتوا يواجهون مسائل أخلاقية، كما ترى، بل إن الآلات باتت اليوم تحاكي وتقلد أيضا حتى المهارات التي كانت سابقا وقفا على البشر، مما جعل مصمميها يواجهون التحدي لإعادة التفكير بما يعنيه هذا للبشرية كما يقول جون ماركوف في صحيفة «نيويورك تايمز» .
ويقول المديرون التنفيذيون في «آي بي إم» إنهم ينوون إطلاق «واتسون» تجاريا لتأمين صنف جديد من نظم السؤال والجواب في الأعمال التجارية، والتربية، والطب. وتداعيات مثل هذه التقنية غير معروفة بعد، لكن من الممكن على سبيل المثال تصور نظم لا تحل محل الخبراء من البشر فحسب، بل تحل أيضا محل مئات الآلاف من الأعمال ذات الدخل الكبير في العالم كله.
وعلى الصعيد الافتراضي سيكون أي عمل ينطوي على الرد على الأسئلة، وتصريف أعمال الصفقات التجارية عن طريق الهاتف قيد الخطر. فقط يكفي أن نرى كيف أن منافذ صرف النقود أوتوماتيكيا قد حلت محل موظفي البنوك لأخذ فكرة عما قد يحصل. وللتأكد أكثر فإن أي شخص قد قضى وقتا للحصول على الدعم الفني، أو يحاول تغيير حجز تذاكر طائرته قد يرحب بذلك اليوم. في أي حال هنالك المزيد من عدم الارتياح حول التقدم الحاصل في مضمار فهم اللغة الطبيعية واستيعابها التي يجري التبشير بها في نظم مثل «واتسون». وبمقدار انتشار النظم التي أساسها الذكاء الصناعي، هناك عدد مساوٍ من الأمثلة التي تفرض ذاتها، التي تبين قوة الذكاء الصناعي، وهي نظم تفوق قدرة العقل البشري.
ذكاء جماعي بشري
* ولعل «غوغل» ذاتها ربما هي أفضل مثال على استخدام البرمجيات للغور والتنقيب في أعماق الذكاء البشري الجماعي وجعله متوفرا على شكل مكتبة رقمية، إذ اعتمد محرك بحثها أصلا على البرمجيات الخوارزمية التي تدعى «بايج رانك» التي تقوم بالتنقيب في الخيارات البشرية، واختيار صفحات الشبكة التي تتضمن أجوبة على سؤال محدد، وبالتالي ترتيبها عن طريق من هي التي أكثرها صلة.
وتستخدم الإنترنت على نطاق واسع لأغراض التطبيقات التي توظف مجموعة من القدرات البشرية. ومثال على ذلك التجارب والاختبارات التي تجري على الألعاب التي أساسها الشبكة، والمصممة لتسخير القدرة البشرية بغية التعرف على الأنماط التي تفوق ما هو ممكن عن طريق الكومبيوتر، والتي تولد مجموعة جديدة من العدد والأدوات العلمية. فألعاب مثل «فولدلت»، و«وإيتي آر إن إيه»، و«غالاكسي زو»، تمكن الأفراد من التباري والتعاون في حقول مثل علم الفلك والأحياء والطب وربما علم المواد. وكانت العمليات الكومبيوترية الشخصية الخطوة الأولى باتجاه تعزيز الذكاء التي وصلت إلى مجموعة واسعة من الناس، فقد أنتجت جيلا من «عمال المعرفة» وجهزتهم بمجموعة من العدد والأدوات لجمع المعلومات وإنتاجها والتشارك بها. والآن باتت هنالك نوعية معلوماتية للتغيرات الحاصلة، مع ارتقاء العمليات الكومبيوترية الشخصية من الأجهزة المكتبية، إلى أجهزة اللابتوب، والآن إلى الهواتف الذكية التي باتت موجودة في كل مكان. والهاتف الذكي ليس أداة للملاحة والاتصالات فحسب، بل أصبح في فترة قصيرة أيضا امتدادا لا ينقطع لجميع حواسنا. فهو لم يعد مجرد أداة مرجعية فقط، بل تطور بسرعة إلى «خادم للمعلومات» يمكنه الاستجابة أو الرد على الأسئلة المطبوعة والمنطوقة، أو حتى إنه يقدم الاستشارات الطوعية.
والمزيد من التقدم الحاصل في مجالي الذكاء الصناعي وتعزيزه، هو تحد سيواجه المهندسين وعلماء الكومبيوتر في ما يخص الخيارات الواضحة حول كيفية استخدام التقنية. «إذ ثمة حاجة إلى عقود اجتماعية واضحة تعقد بين المهندسين والمجتمع، لا لإنتاج وظائف جديدة فحسب، بل وظائف أفضل»، وفقا إلى غارون لانيار عالم الكومبيوتر، ومؤلف كتاب «أنت ليس أداة: ألمانيفيستو».
دور القرار البشري
* ويمكن ملاحظة عواقب القرارات البشرية التي تعتمد على تصاميم تقنية بوضوح في النظم الإخبارية المتنافسة على الشبكة التي جرى تطويرها في وادي السيليكون. وتجلس كثرين هيو يوميا أمام جهاز الكومبيوتر للاطلاع على المقالات الإخبارية التي يقرؤها الملايين من مستخدمي «ياهو». ويقوم جهازها الكومبيوتري بعرض نتائج مجموعة عنقودية من البرمجيات التي توفر لها آخر التحديثات الآنية حول مقدار شعبية كل مقال يظهر على الصفحة الأساسية للشركة، وذلك اعتمادا على مذاق القراء وتوجهاتهم واهتماماتهم.
والآنسة هيو هي نسخة أو مثال على محررة أخبار في القرن الحادي والعشرين في جريدة تقليدية، فبدلا من الاعتماد على حدسها فقط تكون قراراتها حول أي المقالات التي ينبغي عليها أن تنشرها على الصفحة الرئيسية في «ياهو»، معتمدة على الإشارات التي تولدها الخوارزميات البرمجية. وهي تقوم طوال اليوم بإعادة ترتيب المقالات الإخبارية التي يجري عرضها، لكي يقرأها العشرات من المجموعات والأقليات الديموغرافية التي تشكل قراء «ياهو». فالمقال الذي لا يجذب الكثير من الانتباه والاهتمام قد يظهر لدقائق فقط قبل إزاحته إلكترونيا. أما المقالات الشعبية والرائجة فقد تظل ظاهرة في الشبكة لأيام، وقد تجذب أحيانا عشرات الملايين من القراء.
وعلى مبعدة خمسة أميال شمال «ياهو»، يقع مقر منافستها «غوغل» التي يجري إنتاج الأخبار فيها بشكل مختلف تماما. إذ تعمل «سبوتلايت»، وهي الميزة التي تلاقي شعبية كبيرة على موقع «غوغل» الإخباري، عن طريق خوارزميات برمجية التي تؤدي أساسا المهام ذاتها التي تؤديها الآنسة هيو. ويقوم هذا البرنامج بالطواف خلسة عبر الشبكة باحثا عن مقالات وقصص تعتبر مثيرة للاهتمام، موظفا أسلوبا يشابه محرك البحث «بايج رانك» الخاص بالشركة، بغية اتخاذ القرارات حول أي المقالات ينبغي تقديمها للقراء. وفي إحدى الحالات تستخدم تقنية أساسها البرمجيات لتوسيع مهارات العمال البشريين، وفي حالة أخرى تقوم تقنية أخرى بالحلول محلهم كلية. ويجري حاليا الترويج بطرق متعددة لقرارات مشابهة تعتمد على التصاميم التقنية، تتعلق بكيفية استخدام الآلات، وما إذا كانت ستعزز من الصفات البشرية، أو تحل محلها، وستكون القيمة الحقيقية لـ«واتسون» في نهاية المطاف في إرغام المجتمع إلى تحديد مكان الخيط الذي يفصل بين الإنسان والآلة.
وبالنسبة إلى عالم الكومبيوتر جون سيلي براون فإن براعة الآلات في الرد على الأسئلة من شأنها فقط أن تحجب ما تبقى مما هو، أساسا، بشري. «إذ إن جوهر الإنسانية يبقى هو في طرح الأسئلة، وليس الجواب عليها»، على حد وصفه.
0 التعليقات :
إرسال تعليق