Featured Video

القاهرة.. ساكنو المقابر يفضلون حياتهم البسيطة على معيشة أصحاب القصور

تتراوح أعداد ساكني القبور بين نصف مليون ومليون ونصف
سهير تمارس حياتها بشكل طبيعي داخل مطبخ منزلها في المدفن («الشرق الأوسط»)
القاهرة: أمل باقازي
عربات محملة بالخضراوات والفواكه تستقبل زائر مدافن باب النصر في القاهرة لمجرد اقترابه من بوابة الدخول، التي تعتبر سوقا متواضعة لمن يسكنون داخل القبور إلى جوار موتاهم بعد أن ضاقت بهم الظروف لتجبرهم على مشاركة الأموات في أماكنهم، من منطلق وجود حياة واحدة سواء كانت فوق الأرض أو تحتها.
بين ممرات القبور، تختلط ألسنة الزائرين بقراءة الفاتحة لأرواح الأموات الذين يرقدون في تربهم ورد السلام على الأحياء القاطنين فوقهم، إلى جانب ترديد الكثير من عبارات الشكر على الحياة التي لا تشعر بمدى روعتها إلا عند رؤية مستوى المعيشة الذي يطوق أعناق هؤلاء ممن يسمونهم «البؤساء».
ورغم كل الصعوبات التي تواجههم داخل المدافن باعتبار أن بعضا منهم يسكنون فوق قبور تعود ملكيتها إلى أناس آخرين، فإنهم يرون أن حياتهم تفوق في راحتها معيشة أصحاب الذوات الذين يجبرون على الاختلاط بالنفوس الدنيئة وما يتعلق بها من مشكلات.
السيدة سهير، إحدى الساكنات في مدفن عائلتها بمقابر باب النصر، قدمت إلى المدفن منذ الستينات بعد أن عجزت عائلتها عن إكمال حياتها في شقة كانت تحوي أفرادها بعد أن ضاقت بهم الحياة، لافتة إلى أنها في ذلك الحين كانت ما زالت في المرحلة الابتدائية من مسيرتها التعليمية التي لم تكتمل.
وقالت في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «كأي طفلة كنت في بداية الأمر أشعر بخوف رهيب ينتابني كلما طرق المساء أبواب السماء، ولم أكن أتوقف عن البكاء إلا عند بزوغ الفجر، غير أنني اعتدت على الوضع تلقائيا مع مرور السنوات».
وتؤكد السيدة سهير أنها حتى الآن بعد أن تجاوز عمرها الخمسين عاما ما زالت ترى أحلاما وكوابيس مزعجة في نومها، إلا أنها، وبحسب قولها، لم تعد تهتم في ظل وجود أفراد عائلتها المتوفين تحت أرض منزلها المكون من غرفة وصالة ومطبخ لا يتسع إلا لفرد واحد.
وتضيف: «تزوجت وانتقلت للعيش مع زوجي خارج المدفن، وأنجبت منه ولدا بلغ الآن من عمره الثالثة والعشرين، غير أن القدر شاء لي أن أنفصل عن زوجي لأعود مجددا مع ابني إلى مدفن عائلتي التي بات أفرادها يرقدون تحت أرضه»، مشيرة إلى أنها تعيش حاليا مع ابنها الوحيد وشقيقها.
وتعود قصة شراء مدفن عائلة السيدة سهير إلى جدها لأبيها الذي قرر شراءه بعد أن توفي ابنه، ومن ثم لحقت به جدتها نتيجة حزنها الشديد على وفاة ابنها، لتبدأ مسيرة دفن أفراد عائلتها الواحد تلو الآخر مرورا بوالدتها وأقربائها الآخرين، مبينة أن الأهالي في القاهرة يعملون على شراء مدافن خاصة بعائلاتهم في المقابر.
ومن ذلك المنطلق، شهدت مدافن القاهرة مؤخرا ظهور ما يسمى «المقابر الاستثمارية» التي بدأت مع إعلان نشرته إحدى الصحف اليومية المصرية عن مشروع مدافن خاصة للمسلمين بالاشتراك مع إحدى الجمعيات الخاصة.
وتضمن الإعلان في ذلك الوقت عرضا لمزايا المشروع المتمثلة في وجود حراسة خاصة وإنارة على مدار 24 ساعة، فضلا عن مساحات خضراء وأماكن لانتظار السيارات وغيرها من الخدمات.
وقالت الشركة في الإعلان الذي نشرته: «الآن فقط تستطيع أن تصطحب أولادك لزيارة أجدادك»، مشيرة إلى أن سعر المقبرة الواحدة يبلغ نحو 39 ألف جنيه مصري يتم دفع نحو 6 آلاف جنيه منها كمقدم حجز للمقبرة، في حين يسدد باقي المبلغ على مدى عامين من دون فوائد.
وبحسب تقرير نشرته إحدى الصحف اليومية المصرية، فإن هناك معايير أخرى من شأنها أن تتحكم في سعر المدفن، والمتضمنة موقعه الذي قد يطل على شارع رئيسي أو فرعي، ومساحته، والتشطيبات ونوع الزخارف التي تزينه، ومدى قربه من القاهرة، خصوصا أن هناك مدافن واقعة بمنطقة مصر الجديدة تعد الصفوة، التي يزيد سعر المدفن الواحد فيها عن سعر أي شقة في حي راق، حيث يتجاوز في بعض الأحيان 150 ألف جنيه مصري.
ويتحدد سعر المدفن بمساحته التي تبدأ من 20 مترا مربعا لتصل إلى 200 متر مربع، بينما يزداد السعر بحسب تشطيبات المقبرة من الداخل من حيث نوع الرخام الذي يغطي الأرضية وإذا ما كان مصريا أو مستوردا، لا سيما أن المقابر تزين غالبا بأجود أنواع الرخام من الألباستر والبلترو أو السيراميك الفاخر.
كما يتم تزيين بعض المقابر بآيات قرآنية مكتوبة بماء الذهب، إلى جانب تشييدها على هيئة فيلا صغيرة يحيط بها سور كبير من الخارج مبني من الطوب الحراري، وبوابة حديدية على المدخل المؤدي إلى المقبرة الذي يصمم بدقة وعناية وبشكل مختلف من مقبرة إلى أخرى.
وفي بعض الأحيان، تزين المقابر بالأعمدة الرومانية أو بعض الزخارف الإسلامية، إضافة إلى زراعة المنطقة المحيطة بالمقبرة من الداخل بأندر أنواع نباتات الزينة والزهور، فضلا عن تخصيص أماكن لجلوس الزوار مغطاة بمظلات لحمايتهم من الشمس في الصيف، والمطر في الشتاء.
وبالنسبة للمدافن التي تعود ملكيتها إلى الشخصيات العامة ممن يتردد على زيارتهم شخصيات كبيرة، فإنه يتم تخصيص دفتر يدون فيه الزائر كلمة للمتوفى وتاريخ الزيارة، في حين يتولى نظافة هذه المدافن من الداخل مجموعة من العمال مقابل مبالغ مالية يتقاضونها من أصحاب المدفن.
الجدول اليومي للسيدة سهير داخل المدافن لا يختلف كثيرا عن أي سيدة خارجها، إلا في كونها تلازم منزلها منذ أن تغرب الشمس وحتى اليوم التالي خوفا من التنقل بين الأموات في الظلام الحالك.
وزادت: «عادة ما أستيقظ في الصباح الباكر لتحضير وجبة الإفطار والخروج إلى السوق القريبة من المدفن لشراء حاجات بسيطة أستخدمها في طهي الغذاء، وقد أذهب إلى زيارة إحدى صديقاتي ممن يسكن بالقاهرة، غير أنني أحاول العودة قبل غروب الشمس كي لا أضطر إلى قطع مسافات بين القبور في الظلام».
حياة طبيعية قائمة داخل المدافن على رفات أناس كانوا يمارسون حياتهم خارجها في يوم من الأيام، حيث إن القاطنين بها يقيمون حتى احتفالات أعراسهم وسط الموتى الراقدين في قبورهم، بينما يعودون إلى أجواء الحزن فور وصول جثمان جديد إلى المقبرة.
وهنا، علقت السيدة سهير قائلة: «ثمة فتيات تزوجن داخل المقابر وأنجبن أبناءهن أيضا، واحتفلنا بهن في المكان نفسه الذي يشهد حزن عائلات كثيرة أثناء دفنهم لأمواتهم، الذين نشاركهم التعازي أيضا، فضلا عن التعرف عليهم بشكل أكبر في كل مرة يأتون بها لزيارة قبور موتاهم».
السيد حسن شقيق السيدة سهير، أفاد بأن المدافن تعج بالزوار في مواسم الأعياد ومنتصف شهر رجب، وهو ما يجعل ساكني القبور يفتحون أبواب منازلهم الأقل من متواضعة لاستقبالهم والتخفيف عنهم.
وقال لـ«الشرق الأوسط»: «حينما يحين الليل أخرج للجلوس خارج المدفن بين القبور لأحتسي قهوتي وأشعر حينها بأنني (سلطان زماني) لأني أعيش بين أموات كانوا عزيزين علي في حياتهم، فضلا عن أنني بذلك أزهد في الدنيا ونعيمها، خصوصا أن الحياة بين القبور تعد موعظة وعبرة»، مؤكدا أنه يفضل العيش في المدافن على حياة السرايا، بحسب قوله.
وأشار إلى أن من يعيش داخل المدافن فإنه يكون بعيد جدا عن مشكلات الحياة والنفوس الدنيئة من البشر الذين نسوا الآخرة وانشغلوا عنها بالحياة الدنيا، إضافة إلى أن ساكني القبور عادة ما يتميزون بحساسية زائدة تجاه أي موقف محزن، مما يجعلهم يذرفون دموعهم على أي ميت يدفن لديهم حتى وإن لم يكونوا يعرفونه.
وكان تقرير صادر من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر أشار إلى أن نحو 1.5 مليون مصري يعيشون في مقابر البساتين والتونسي والإمام الشافعي وباب الوزير والغفير والمجاورين والإمام الليثي، وجبانات عين شمس ومدينة نصر ومصر الجديدة.
كما أكدت دراسة لوزارة الإسكان المصرية أن عدد سكان المقابر وصل إلى نحو نصف مليون في القاهرة وحدها، منهم 1150 أسرة تستأجر أحواش المدافن، و3088 أسرة ليست لديهم مطابخ، و1233 أسرة لديهم دورات مياه مشتركة.
وأشار تقرير جهاز الإحصاء إلى أن سكان العشوائيات - ومنها مناطق المقابر - بلغوا نحو 8 ملايين موزعين على 794 منطقة سكنية بكافة أنحاء مصر، إلا أن النسبة الكبيرة منها حول القاهرة الكبرى نتيجة الهجرة إلى العاصمة بحثا عن العمل.
وقد وجد سكن المقابر في مصر منذ القرن قبل الماضي، حيث أشار أول إحصاء لعدد سكان المقابر إلى قرابة 35 ألف نسمة عام 1898، إلا أنه منذ ذلك الوقت وتعدادات السكان المختلفة تشير إلى زيادة العدد، لتشهد قفزة كبيرة في السبعينات والثمانينات مع تزايد أزمة السكن.
وبلغ سكان المقابر في تعداد عام 1947 نحو 69 ألفا، و97 ألفا في عام 1966، و180 ألفا بحلول عام 1986، في حين أورد تقرير جهاز الإحصاء عدد سكان كل منطقة في المقابر بالتفصيل حيث تراوح العدد بين 5 آلاف و54 ألفا في المقبرة الواحدة حسب اتساعها.
الجدير بالذكر، أن محافظة القاهرة كانت قد بدأت منذ سنوات مشروعا طموحا لنقل المقابر، وسكانها البالغ عددهم نحو مليون ونصف المليون، من المدينة إلى ضواح بعيدة عن مناطق التكدس السكاني، ومثلما تعتمد الحكومة على المدن الجديدة خارج القاهرة لحل مشكلة الإسكان، فإنها تفعل الأمر نفسه مع مشكلة المدافن.
وبالعودة إلى السيدة سهير، فقد أشارت إلى وجود شبان متعلمين يعيشون مع عائلاتهم داخل المدافن، من ضمنهم المحامون والمهندسون، لافتة في الوقت نفسه إلى أن أحد حفاري القبور يحمل شهادة جامعية في الحقوق، والذي تزوج من ابنة إحدى العوائل الساكنة في الجزء الأعلى من مدافن باب النصر.
واستطردت في القول: «لا تأتينا أي إعانات من الدولة، ما عدا العوائل التي كانت تسكن في أطراف المدافن المطلة على الشوارع الرئيسية والتي تم منحها شققا سكنية، غير أننا لم نحصل على ذلك باعتبارنا نعيش في الجزء الداخلي منها»، مبينة أن إخوتها المتزوجين يساعدونها قليلا بحسب استطاعتهم.
وأوضحت أنها منذ أن سكنت في المدفن، عاصرت دفن أكثر من 4 أفراد من أسرتها، حيث أنه تم حفر قبورهم في أرض صالة منزلها ودفنهم، ومن ثم إعادة الأثاث إلى وضعه الطبيعي، متسائلة عن ما إذا كان أفراد عائلتها المتوفون يشعرون بوجودها فوق قبورهم أم لا، بحسب وصفها.
دورات المياه داخل المدافن لا وجود لها إطلاقا، وهو ما يدفع البعض إلى الخروج في مناطق بعيدة لقضاء حاجتهم، أو الذهاب إلى المساجد للقيام بذلك، غير أن هناك من يقوم بقضاء حاجته داخل المدفن ومن ثم كنس فضلاته بنفسه ورميها في أماكن بعيدة عن المقابر احتراما لحرمة الأموات الموجودين بها. وفيما يتعلق بمياه الشرب، أفادت السيدة سهير بأنها تذهب صباح كل يوم لتعبئة الماء من خارج المقابر عبر رحلة وصفتها بـ«الشاقة» نتيجة بعد المكان، إلى جانب عدم قدرتها على حمل الأوعية بعد امتلائها والمشي بها لمسافات طويلة.

0 التعليقات :

إرسال تعليق